الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 399 ] ( وإذا غاب الرجل وله مال في يد رجل يعترف به وبالزوجية فرض القاضي في ذلك المال نفقة زوجة الغائب وولده الصغار ووالديه ، وكذا إذا علم القاضي ذلك ولم يعترف به ) لأنه لما أقر بالزوجية الوديعة فقد أقر أن حق الأخذ لها ; لأن لها أن تأخذ من مال الزوج حقها من غير رضاه ، وإقرار صاحب اليد مقبول في حق نفسه لا سيما هاهنا [ ص: 400 ] فإنه لو أنكر أحد الأمرين لا تقبل بينة المرأة فيه لأن المودع ليس بخصم في إثبات الزوجية عليه ولا المرأة خصم في إثبات حقوق الغائب ، [ ص: 401 ] وإذا ثبت في حقه تعدى إلى الغائب ، وكذا إذا كان المال في يده مضاربة ، وكذا الجواب في الدين ، وهذا كله إذا كان المال من جنس حقها دراهم أو دنانير أو طعاما أو كسوة من جنس حقها ، أما إذا كان من خلاف جنسه لا تفرض النفقة فيه لأنه يحتاج إلى البيع ، ولا يباع مال الغائب بالاتفاق ، أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه لا يباع على الحاضر وكذا على الغائب ، وأما عندهما فلأنه إن كان يقضي على الحاضر لأنه يعرف امتناعه لا يقضي على الغائب لأنه لا يعرف امتناعه .

قال ( ويأخذ منها كفيلا بها ) نظرا للغائب لأنها ربما استوفت النفقة أو طلقها الزوج وانقضت عدتها فرق بين هذا وبين الميراث إذا قسم بين ورثة حضور بالبينة ولم يقولوا : لا نعلم له وارثا آخر حيث لا يؤخذ منهم الكفيل عند أبي حنيفة لأن هناك المكفول له مجهول وهاهنا معلوم وهو الزوج [ ص: 402 ] ويحلفها بالله ما أعطاها النفقة نظرا للغائب .

قال ( ولا يقضي بنفقة في مال غائب إلا لهؤلاء ) ووجه الفرق هو أن نفقة هؤلاء واجبة قبل قضاء القاضي ولهذا كان لهم أن يأخذوا قبل القضاء فكان قضاء القاضي إعانة لهم ، أما غيرهم من المحارم فنفقتهم إنما تجب بالقضاء لأنه مجتهد فيه ، والقضاء على الغائب لا يجوز ، ولو لم يعلم القاضي بذلك ولم يكن مقرا به فأقامت البينة على الزوجية أو لم يخلف مالا فأقامت البينة ليفرض القاضي نفقتها على الغائب ويأمرها بالاستدانة لا يقضي القاضي بذلك لأن في ذلك قضاء على الغائب .

وقال زفر : يقضي فيه لأن فيه نظرا لها ولا ضرر فيه على الغائب ، فإنه لو حضر وصدقها فقد أخذت حقها ، وإن جحد يحلف ، فإن نكل فقد صدق ، وإن أقامت بينة فقد ثبت حقها ، وإن عجزت يضمن الكفيل أو المرأة ، وعمل القضاة اليوم على هذا أنه يقضي بالنفقة على الغائب لحاجة الناس وهو مجتهد فيه ، [ ص: 403 ] وفي هذه المسألة أقاويل مرجوع عنها فلم يذكرها .

التالي السابق


( قوله يعترف به وبالزوجية ) في حق الزوجة كان ينبغي أن يزيد قوله وبالنسب في الولد والوالد لأنه رتب على ما ذكر من الاعتراف قوله فرض القاضي في ذلك المال نفقة زوجة الغائب وولده الصغار ووالديه ( قوله وكذا إذا علم القاضي ذلك ) أي كلا الأمرين ، أما لو علم أحدهما احتاج في القضاء بالدفع إليهم إلى إقرار من عنده أو عليه في الصحيح دون البينة ( قوله وإقرار صاحب اليد مقبول في حق نفسه لا سيما هنا ) فإنه أولى أن يقبل إقراره على نفسه بثبوت حق الأخذ لها مما في يده أو عليه إذا كان دينا وذلك [ ص: 400 ] لأنه لا طريق إلى إثبات حق الأخذ لها مما في يده أو عليه إذا كان دينا إلا اعترافه ، بخلاف غيره فإن الحق يثبت فيه بالبينة كما يثبت بالاعتراف ، ولا سيما مركب من لا النافية للجنس ومنفيها وهو سي ومعناه المثل .

قال الشاعر :

فإياكم وحية بطن واد هموس الناب ليس لكم بسي

أي بمثل ولا شبيه ، وهو واحد سيان من قولك هما سيان ، وأصله سوى قلبت الواو ياء لسكونها بعد كسرة أو لاجتماعها مع الياء وسبق إحداهما بالسكون ، فإن جررت ما بعد ما كزيد مثلا في قولك أكرمني القوم لا سيما زيد فهو على أن سيا مضاف إلى زيد وما زائد مقحم كقوله :

كل ما حي وإن أمروا واردو الحوض الذي وردوا

وإن رفعته فعلى أن سيا يضاف إلى ما وهو موصول اسمي حذف صدر صلته ، والتقدير لا مثل الذي هو زيد ، وجاز كونه مضافا مع أن اسم لا يجب كونه نكرة لأنه بمعنى مثل ، ومثل لا يتعرف بالإضافة وخبر لا محذوف ، وإذا كان كذلك ففي كلا الوجهين خروج عن الأصل في الجر ، بالزيادة بين المضاف والمضاف إليه ، وفي الرفع بحذف صدر صلة الموصول ، وهو إنما يقاس إذا طالت الصلة . واختار المحققون الجر على الرفع لأن زيادة ما أوسع من حذف المبتدأ مع ما ينضم إليه من كونه في خصوص ذلك الموقع ، وقد يقال زيادة ما في نفسه كثير ولكن بين المتضايفين ممنوع فتكافآ ، وأما نصب ما بعد ما فقال ابن الدهان صاحب الغرة : لا أعرف له وجها ، وعن هذا لم يذكر ابن معط في فصوله في المستثنى بلا سيما سوى الجر والرفع ، وذكر بيت امرئ القيس :

ألا رب يوم لك منهن صالح ولا سيما يوم بدارة جلجل

بالوجهين ولم يذكر فيه النصب ، لكن قد روي النصب فيه أيضا فقيل على الظرف ، وقيل على التشبيه بالمفعول ، وقيل مجموع لا سيما بمنزلة إلا ، ومعنى الإخراج الذي يقتضيه إلا فيها هو الإخراج من ذلك الحكم بإثبات ما هو أبلغ منه ، فإذا قلت أكرمني القوم لا سيما زيد فقد : أثبت له أبلغ من إكرامهم وقد جاء تخفيفها بحذف إحدى الياءين [ ص: 401 ] فقيل الأولى لأنها ساكنة وهو أضعف من المتحرك فكان حذفه أولى ، وقيل الثانية لأنها لام والإعلال في اللام أولى .

( قوله وإذا ثبت في حقه ) بإقراره أن حق الأخذ لها مما في يده ( تعدى إلى الغائب ) ضرورة . أورد عليه طلب الفرق بين هذا وبين ما لو جاء صاحب الدين بمودع أو بمديون للغائب معرف بالدين الوديعة فإنه لا يقضي عليه بالدفع إلى صاحب الدين . وأجيب بأن القضاء يتبع النظر للغائب ، ففي الأمر بالإنفاق نظر له بإبقاء ملكه الثابت بالنكاح وإبقاء ما هو في معنى نفسه : أعني قرابة الولاد وليس في قضاء دينه ذلك بل هو قضاء عليه بقول الغير ( قوله فإنه لا يباع على الحاضر ) حتى لو امتنع عن أداء الدين وعنده أموال غير الأثمان لا يبيع عليه القاضي بل يأمره أن يبيع هو ويقضي ، فإن لم يفعل حبسه أبدا حتى يبيع لأن البيع عليه حجر عليه ولا يحجر على العاقل البالغ ، وعندهما [ ص: 402 ] يبيع على الحاضر إذا امتنع من البيع .

( قوله ويحلفها بالله ما أعطاها النفقة ) ثم إذا جاء الغائب فهو على حجته في إعطاء النفقة ، وفي كل موضع جاز القضاء بالدفع كان لها أن تأخذ بغير قضاء من ماله شرعا أصله حديث هند امرأة أبي سفيان المتقدم . وعن هذا قلنا : لو كان للغائب مال حاضر في بيته والقاضي يعلم الزوجية أطلق الأخذ منه ، ولا يكون هذا قضاء بل إيفاء ، والإيفاء لا يمتنع بسبب الزوجية ، ألا يرى أن من أقر بدين ثم غاب وله مال حاضر من جنس الدين فطلب المقر له من القاضي الإيفاء منه أجابه إلى ذلك .

( قوله إلا لهؤلاء ) وهم الزوجة والوالدان والولد الصغير ، ويستدرك عليه الأولاد الكبار الإناث والذكور الكبار الزمنى ونحوهم لأنهم كالصغار للعجز عن الكسب .

( قوله فنفقتهم إنما تجب بالقضاء ) لا شك أن الوجوب ثابت بدليله قبل القضاء حتى كان عليه أن ينفق عليهم إذا كانوا فقراء ديانة ، وإنما المراد أنه لما كان مجتهدا فيه فقد يمتنع تمسكا بقول من يرى أن لا تجب النفقة فلا يعين عليه قول الوجوب إلا القضاء به فينتفي تأويله ويتقرر في ذمته ويجبر عليه إذا امتنع . وفي الكافي : لو أنفق المديون أو المودع نفقة هؤلاء بغير أمر القاضي ضمن المودع ولا يبرأ المديون ولكن لا يرجع على من أنفق [ ص: 403 ] عليه ، ولو اجتمع الدين الوديعة فالقاضي يأمر بالإنفاق من الوديعة أولا لأنه أنظر للغائب فإن الدين محفوظ لا يحتمل الهلاك بخلاف الوديعة .

( قوله وفي هذه المسألة أقاويل مرجوع عنها ) منها قول أبي حنيفة أولا : إذا جحد المديون أو المودع الزوجية تسمع بينتها على الزوجية لأنها تدعي حقا فيما في يده من المال بسبب فكان خصما في إثبات ذلك السبب ، كمن ادعى بيتا في يد إنسان أنه له اشتراه من فلان الغائب ، ثم رجع إلى أنها لا تقبل منه وهو قولهما لأنها تثبت النكاح على الغائب ومن عنده المال ليس خصما فيه . ومنها ما قال به زفر رحمه الله من سماع بينتها على الزوجية ليفرض لها إذا لم يكن له مال حاضر ويأمرها بالاستدانة ، ثم رجع إلى قولهما ، وقول زفر في ذلك متقرر ، ونقل مثل قول زفر عن أبي يوسف فقوى عمل القضاة لحاجة الناس إلى ذلك .

[ فروع ]

في الفتاوى : امرأة قالت : إن زوجي يطيل الغيبة عني فطلبت كفيلا بالنفقة . قال أبو حنيفة : ليس لها ذلك ، وقال أبو يوسف : آخذ كفيلا بنفقة شهر واحد استحسانا ، وعليه الفتوى ، فلو علم أنه يمكث في السفر أكثر من شهر أخذ عند أبي يوسف الكفيل بأكثر من شهر . وعن أبي يوسف أيضا : لو كفل بنفقتها ما عاشت أو كل شهر أو ما بقي النكاح بينهما صح . وقال أبو حنيفة : هو على شهر واحد ، ولو ضمن لها نفقة سنة جاز وإن لم تكن واجبة ، ولو طلقها رجعيا أو بائنا والمسألة بحالها كفل بنفقة عدتها كل شهر لأن العدة من أحكام النكاح




الخدمات العلمية