الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) ، لما ذكر المحافظة على الصلوات ، وأمر بالقيام فيها قانتين ، كان مما يعرض للمصلين حالة يخافون فيها ؛ فرخص لهم في الصلاة ماشين على الأقدام ، وراكبين . والخوف يشمل الخوف من عدو ، وسبع ، وسيل وغير ذلك ، فكل أمر يخاف منه فهو مبيح ما تضمنته الآية هذه . وقال مالك : يستحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن ، وأكثر الفقهاء على تساوي الخوف . و " رجالا " منصوب على الحال ، والعامل محذوف ، قالوا تقديره : فصلوا رجالا ، ويحسن أن يقدر من لفظ الأول ، أي : فحافظوا عليها رجالا ، ورجالا جمع راجل ، كقائم وقيام ، قال تعالى : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ) ، وقال الشاعر :


وبنو غدانة شاخص أبصارهم يمشون تحت بطونهن رجالا



والمعنى : ماشين على الأقدام . يقال منه : رجل يرجل رجلا ، إذا عدم المركوب ومشى على قدميه ، فهو راجل ورجل ورجل ، على وزن رجل مقابل امرأة ، وهي لغة أهل الحجاز ، يقولون : مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا ، ويقال : رجلان ورجيل ورجل ، قال الشاعر :


علي إذا لاقيت ليلى بخلوة     أن ازدار بيت الله رجلان حافيا



قالوا : ويجمع على : رجال ، ورجيل ، ورجالى ، ورجالى ، ورجالة ، ورجالى ، ورجلان ، ورجلة ، ورجلة ، بفتح الجيم ، وأرجلة ، وأراجل ، وأراجيل . قرأ عكرمة ، وأبو مجلز : " فرجالا " بضم الراء وتشديد الجيم ، وروي عن عكرمة التخفيف مع ضم الراء ، وقرئ : " فرجلا " بضم الراء وفتح الجيم مشددة بغير ألف . وقرئ : " فرجلا " بفتح الراء وسكون الجيم . وقرأ بديل بن ميسرة : " فرجالا فركبانا " بالفاء ، وهو جمع راكب . قال الفضل : لا يقال راكب إلا لصاحب الجمل ، وأما صاحب الفرس فيقال له فارس ، ولراكب الحمار حمار ، ولراكب البغل بغال ، وقيل : الأفصح أن يقال : صاحب بغل ، وصاحب حمار . وظاهر قوله : ( فإن خفتم ) حصول مطلق الخوف ، وأنه بمطلق الخوف تباح الصلاة في هاتين الحالتين . وقالوا : هي صلاة الغداة للذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حالة المسايفة ، أو ما يشبهه ، وأما صلاة الخوف بالإمام ، وانقسام الناس ؛ فليس حكمها في هذه الآية . وقيل : فرجالا : مشاة بالجماعة ؛ لأنهم يمشون إلى العدو في صلاة الخوف . أو ركبانا ، أي : وجدانا بالإيماء . وظاهر قوله : ( فرجالا ) أنهم يوقعون الصلاة وهم ماشون ؛ فيصلون على كل حال ، والركب يومئ ، ويسقط عنه التوجه إلى القبلة ، وهو قول الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يصلون في حال المشي والمسايفة ، ما لم يمكن الوقوف . ولم تتعرض الآية لعدد الركعات في هذا الخوف ، والجمهور أنها لا تقصر الصلاة عن عدد صلاة المسافر إن كانوا في سفر تقصر فيه . وقال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما : تصلى ركعة إيماء . وقال الضحاك بن مزاحم : تصلى في المسايفة وغيرها ركعة ، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين . وقال إسحاق : فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ، ولو رأوا سوادا فظنوه عدوا [ ص: 244 ] ثم تبين أنه ليس بعدو ، فقال أبو حنيفة : يعيدون . وظاهر الآية : أنه متى عرض له الخوف فله أن يصلي على هاتين الحالتين ، فلو صلى ركعة آمنا ثم طرأ له الخوف ركب وبنى ، أو عكسه : أتم وبنى ، عند مالك ، وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال المزني . وقال أبو حنيفة : إذا استفتح آمنا ثم خاف استقبل ولم يبن ، فإن صلى خائفا ثم أمن بنى . وقال أبو يوسف : لا يبني في شيء من هذا كله . وتدل هذه الآية على عظيم قدر الصلاة ، وتأكيد طلبها إذ لم تسقط بالخوف ؛ فلا تسقط بغيره من مرض وشغل ونحوه ، حتى المريض إذا لم يمكنه فعلها لزمه الإشارة بالعين عند أكثر العلماء ، وبهذا تميزت عن سائر العبادات ؛ لأنها كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها . ( فإذا أمنتم ) ، قال مجاهد : أي : خرجتم من السفر إلى دار الإقامة ، ورده الطبري . قيل : ولا ينبغي رده لأنه شرح الأمن بمحل الأمن ؛ لأن الإنسان إذا رجع من سفره وحل دار إقامته أمن ، فكان السفر مظنة الخوف ، كما أن دار الإقامة محل الأمن . وقيل : معنى " فإذا أمنتم " أي : زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة . وقيل : فإذا كنتم آمنين ، أي : متى كنتم على أمن قبل أو بعد . ( فاذكروا الله ) بالشكر والعبادة ( كما علمكم ) أي : أحسن إليكم بتعليمكم ما كنتم جاهليه من أمر الشرائع ، وكيف تصلون في حال الخوف وحال الأمن . و " ما " مصدرية ، و " الكاف " للتشبيه . أمر أن يذكروا الله تعالى ذكرا يعادل ويوازي نعمة ما علمهم ؛ بحيث يجتهد الذاكر في تشبيه ذكره بالنعمة في القدر والكفاءة ، وإن لم يقدر على بلوغ ذلك . ومعنى " كما علمكم " : كما أنعم عليكم فعلمكم ، فعبر بالمسبب عن السبب ؛ لأن التعليم ناشئ عن إنعام الله على العبد وإحسانه له . وقد تكون الكاف للتعليل ، أي : فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم ، أي : يكون الحامل لكم على ذكره وشكره وعبادته تعليمه إياكم ؛ لأنه لا منحة أعظم من منحة العلم . ( ما لم تكونوا تعلمون ) ، " ما " : مفعول ثان لعلمكم ، وفيه الامتنان بالتعليم على العبد ، وفي قوله : ( ما لم تكونوا تعلمون ) إفهام أنكم علمتم شيئا لم تكونوا لتصلوا لإدراكه بعقولكم لولا أنه تعالى علمكموه ، أي : أنكم لو تركتم دون تعليم لم تكونوا لتعلموه أبدا . وحكى النقاش وغيره أن معنى : ( فاذكروا الله ) أي : صلوا الصلاة التي قد علمتموها ، أي : صلاة تامة بجميع شروطها وأركانها . وتكون " ما " في ( كما علمكم ) موصولة ، أي : فصلوا الصلاة كالصلاة التي علمكم ، وعبر بالذكر عن الصلاة ، والكاف إذ ذاك للتشبيه بين هيئتي الصلاتين : الصلاة التي كانت أولا قبل الخوف ، والصلاة التي كانت بعد الخوف في حالة الأمن . قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل : ( ما لم تكونوا ) بدل من " ما " التي في قوله " كما " ، وإلا لم يتسق لفظ الآية . انتهى . وهو تخريج يمكن ، وأحسن منه أن يكون بدلا من الضمير المحذوف في " علمكم " العائد على " ما " ؛ إذ التقدير علمكموه ، أي : علمكم ما لم تكونوا تعلمون . وقد أجاز النحويون : جاءني الذي ضربت أخاك ، أي : ضربته أخاك ، على البدل من الضمير المحذوف .

التالي السابق


الخدمات العلمية