الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. ( قال ) : ولا يجوز التكفير بعد اليمين قبل الحنث عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى : يجوز بالمال دون الصوم ، وإن كان يمينه على معصية فله في جواز التكفير قبل الحنث وجهان ، احتج بقوله تعالى { : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } . وحرف الفاء للتعقيب مع الوصل فيقتضي جواز أداء الكفارة موصولا بعقد اليمين . قال صلى الله عليه وسلم { : من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر يمينه ، وليأت الذي هو خير } ، وفي رواية { فليكفر ، ثم ليأت بالذي هو خير } ، وهذا تنصيص على الأمر بالتكفير قبل الحنث ، وأقل أحواله أن يفيد الجواز ; ولأن السبب للكفارة اليمين ، فإنها تضاف إلى اليمين ، والواجبات تضاف إلى أسبابها حقيقة ، ومن قال على يمين تلزمه الكفارة باعتبار أن التزام السبب يكون كناية عن الواجب به ، والدليل عليه اليمين بالطلاق فالسبب هناك اليمين دون الشرط ، حتى يكون الضمان على شهود اليمين دون شهود الشرط ، فكذلك اليمين بالله تعالى وإذا ثبت هذا فنقول أداء الحق المالي بعد وجود سبب الوجوب قبل الوجوب جائز كأداء الزكاة بعد كمال النصاب قبل الحول ، وأما البدني لا يجوز إلا بعد تقرر [ ص: 148 ] الوجوب ; لأن التكفير بالصوم للضرورة ولا ضرورة قبل تقرر الوجوب ; ولأن هذه كفارة مالية توقف وجوبها على معنى ، فيجوز أداؤها قبله ككفارة القتل في الآدمي والصيد إذا جرح مسلما ، ثم كفر بالمال قبل زهوق الروح ، أو جرح المحرم صيدا ثم كفر قبل موته يجوز بالمال بالاتفاق .

( وحجتنا ) في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم { : لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك } وما رواه الشافعي رحمه الله تعالى محمول على التقديم والتأخير بدليل ما روينا ، وهذا لمعنيين أحدهما أن الأمر يفيد الوجوب حقيقة ، ولا وجوب قبل الحنث بالاتفاق ، والثاني أن قوله : فليكفر أمر بمطلق التكفير ، ولا يجوز مطلق التكفير إلا بعد الحنث ، أما قبل الحنث يجوز عنده بالمال دون الصوم ، وليس من باب التخصيص ; لأن ما يكفر به ليس في لفظه ، والتخصيص في الملفوظ الذي له عموم دون ما يثبت بطريق الاقتضاء ، والمعنى فيه أن مجرد اليمين ليس بسبب لوجوب الكفارة ; لأن أدنى حد السبب أن يكون مؤديا إلى الشيء طريقا له ، واليمين مانعة من الحنث محرمة له فكيف تكون موجبة لما يجب بعد الحنث ، ألا ترى أن الصوم والإحرام لما كان مانعا مما يجب به الكفارة ، وهو ارتكاب المحظور لم يكن بنفسه سببا لوجوب الكفارة بخلاف الجرح ، فإنه طريق يفضي إلى زهوق الروح ، وبخلاف كمال النصاب ، فإنه تحقق الغنى المؤدي إلى النماء الذي به يكون المال سببا لوجوب الزكاة ; ولأن الكفارة لا تجب إلا بعد ارتفاع اليمين ، فإن بالحنث اليمين يرتفع ، وما يكون سببا للشيء فالوجوب يترتب على تقرره لا على ارتفاعه .

والدليل عليه أن اليمن ليست بسبب التكفير بالصوم حتى يجوز أداؤه قبل الحنث ، وبعد وجوب السبب الأداء جائز ماليا كان أو بدنيا ، ألا ترى أن صوم المسافر في رمضان يجوز لوجود السبب ، وإن كان الأداء متأخرا إلى أن يدرك عدة من أيام أخر ، وإضافة الكفارة إلى اليمين ; لأنها تجب بحنث بعد اليمين ، كما تضاف الكفارة إلى الصوم ، والإحرام بهذا الطريق ولئن سلمنا أن اليمين سبب ، فالكفارة إنما تجب خلفا عن البر الواجب ليصير عند أدائها كأنه تم على بره ، ولا معتبر بالخلف في حال بقاء الواجب ، وقبل الحنث ما هو الأصل باق وهو البر ، فلا تكون الكفارة خلفا كما لا يكون التيمم طهارة مع القدرة على الماء ، يقرره أن الكفارة توبة كما قال الله تعالى في كفارة القتل { : توبة من الله } ، والتوبة قبل الذنب لا تكون ، وهو في عقد اليمين معظم حرمة [ ص: 149 ] اسم الله تعالى فأما الذنب في هتك حرمة اسم الله تعالى ، فالتكفير قبل الحنث بمنزلة الطهارة قبل الحدث بخلاف كفارة القتل ، فإنه جزاء جنايته ، وجنايته في الجرح إذ لا صنع له في زهوق الروح ، وبخلاف الزكاة ; لأنه شكر النعمة ، والنعمة المال دون مضي الحول ، فكان حولان ، الحول تأجيلا فيه ، والتأجيل لا ينفي الوجوب ، فكيف ينفي تقرر السبب ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية