الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مكاتبة بين رجلين ولدت بنتا فوطئا الابنة فعلقت فولدت منهما ، ثم ماتا فالابنة حرة ; لأنها كانت أم ولد لهما فتعتق بموتهما كما لو أعتقاها وهذا ; لأنها استغنت عن تبعية الأم لما ظهر لها من سبب العتق مجانا وتبقى الأم على مكاتبتها ; لأن نفوذ العتق في التبع لا يوجب عتق الأصل ولو كانت الأم هي التي ولدت منهما ، ثم ماتا عتقت هي بجهة الاستيلاد وعتق ولدها أيضا ; لأنه تبع لها وثبوت العتق في التبع بثبوته في الأصل ولأن عتقها بالاستيلاد كعتقها بإعتاق منهما ابتداء وقد بينا أنهما إذا أعتقاها عتق الولد معها ; لأن إعتاقهما إياها بمنزلة الاستيفاء لما عليها من المكاتبة وإن عجزت ، ثم ولدت منهما بعد ذلك فالولد الأول رقيق ; لأن بعجزها انفسخت الكتابة وصار الولد الأول رقيقا ، ثم يثبت فيها حق أمية الولد بعد انفصال هذا الولد عنها وحق العتق لا يسري إلى الولد المنفصل كحقيقة العتق .

وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كاتب أحد الشريكين بغير إذن شريكه ، ثم علقت منه فهي أم ولد له وأبو حنيفة رحمه الله تعالى في هذا لا يخالفهما ; لأن نصيب الشريك عنده لم يصر مكاتبا فتصير أم ولد للمشتري ولكنه حفظ جوابهما ولم يحفظ جواب أبي حنيفة ، وهي مكاتبة على حالها ; لأن الكتابة لا تنافي الاستيلاد سابقا ولا طارئا ويضمن نصف قيمتها ، ونصف عقرها للشريك وهذه إجازة للمكاتبة ; لأن العقد في حق الشريك لدفع الضرر عنه وقد زال ذلك بتحول نصيبه إلى المستولد قال وهذا بمنزلة رجل له أم ولد كاتبها يريد به التشبيه في حكم لزوم الكتابة .

فأما في مسألة الأصل المستولد ضامن نصف العقر ; لأن كتابته في نصيبه كان نافذا ومن استولد مكاتبته يلزمه العقر لها وقد فسره بعد هذا فقال جارية بين رجلين كاتبها أحدهما بغير إذن شريكه ، ثم [ ص: 40 ] وطئ الذي كاتبها قبل أن يعلم شريكه بالمكاتبة فولدت منه فهي أم ولد له والمكاتبة جائزة ويضمن الواطئ نصف قيمتها ، ونصف عقرها للشريك ، ونصف العقر لها وللمكاتبة الخيار ; لأنه تلقاها جهتا حرية فإن اختارت الكتابة أخذت نصف العقر منه وإن اختارت أن تكون أم ولد له لم يكن لها نصف العقر ; لأن استحقاقها نصف العقر لكونها أحق بنفسها بعقد الكتابة وقد زال ذلك حين اختارت الاستيلاد فإن أم الولد لا تستوجب على مولاها دينا وإن أجاز شريكه المكاتبة بعد ما علقت منه فإجازته باطلة ، وهي مكاتبة ; لأنه أجاز عقدا باطلا ولأن نصيبه تحول إلى المكاتب بالاستيلاد وإنما كان يعتبر إجازته باعتبار ملكه فإن وطئها الذي لم يكاتب فعلقت منه فهي أم ولد الذي علقت منه ; لأنه مالك لنصيبه منها فصح استيلاده فيها والمكاتبة على حالها جائزة حتى يردها الواطئ ; لأنه لا منافاة بين الاستيلاد والكتابة وكل واحد منهما يطرأ على صاحبه فلم يكن إقدامه على الاستيلاد إبطالا منه للكتابة ولكنه لو انفسخت الكتابة بعد ذلك صار الكل أم ولد له ; لأن المانع من انتقال نصيب الشريك إليه بالاستيلاد هو الكتابة وقد ارتفعت وإن كاتبها أحدهما بإذن شريكه ، ثم استولدها الآخر فإن شاءت عجزت ، وكانت أم ولد المستولد لزوال المانع في نصيب الشريك ، وإن شاءت مضت على كتابتها وأخذت منه نصف العقر ; لأن الكتابة في نصيب الشريك لازمة حين باشرها بإذن شريكه وتأخذ منه نصف العقر ; لأنها أحق بنفسها في ذلك النصف فإذا أدت المكاتبة عتقت ولم تسع للمستولد في شيء ; لأن نصيبه منها أم ولد ولا سعاية على أم الولد للمستولد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى .

وإن كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه فاكتسبت مالا وقضت منه الكتابة فعتقت ، ثم اكتسبت مالا ، ثم حضر الذي لم يكاتب فله نصف ما اكتسبته قبل أداء الكتابة ولها نصفه ; لأن نصيب المكاتب منها مكاتب ، ونصيب الشريك مملوك له والكسب يملك بملك الأصل وما اكتسبته بعد أداء الكتابة فهو لها ; لأن عندهما تعتق كلها بعتق البعض ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يعتق نصيب المكاتب ونصيب الشريك بمنزلة المكاتب لما عليها من السعاية والمكاتب أحق بكسبه من المولى فلهذا لم يكن للشريك شيء مما اكتسبت بعد أداء الكتابة فإن ماتت قبل أن تؤدي شيئا وتركت مالا فنصفه للذي لم يكاتب ; لأنه كسب نصيبه منها ويأخذ الذي كاتب النصف الباقي في المكاتبة ; لأن كسب نصيبه منها والمكاتبة كانت نافذة في نصيبه فيأخذ بدل [ ص: 41 ] الكتابة في تركتها بعد موتها ، ثم يأخذ الذي لم يكاتب نصف قيمتها مما بقي إن كان شريكه معسرا ; لأنه يثبت له حق استسعائها في نصف القيمة إن كانت حية وقد ماتت عن مال فيأخذ تلك السعاية من مالها والباقي ميراث لورثتها الأحرار ; لأنه حكم بعتقها بأداء السعاية مستندا إلى حال حياتها فإن لم يكن وارث غيرهما كان ما بقي بينهما نصفين ; لأن نصيب كل واحد منهما عتق على ملكه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فهي مولاة لهما وإن شاء أن يضمن شريكه ; لأنه موسرا كان له ذلك ; لأن المكاتب صار معتقا لنصيبه ، ثم يرجع به المكاتب في مالها كما يرجع عليها لو كانت حية ويكون ولاؤها وميراثها له إن لم يكن لها وارث ; لأنه تملك نصيب شريكه بالضمان .

وإن كانت ماتت بعد ما أدت المكاتبة وقد تركت مالا لا يدرى متى اكتسبته قبل الأداء أو بعده فالمال له ; لأن الكسب حادث فيحال حدوثه إلى أقرب الأوقات ، وهو ما بعد أداء الكتابة ولأن سبب الاستحقاق لها ; لأنه قد ظهر ، وهو اكتسابها ، واستحقاق النصف لشريكه لم يعلم سببه ، وهو كون نصيبه قنا حين اكتسب ولا يقال قد عرفنا نصيبه مملوكا قنا له فيجب التمسك بذلك حتى يتبين خلافه ; لأن هذا ظاهر علم زواله بعد ما أدت الكتابة واستصحاب الحال إنما يعتبر إذا لم يكن خلافه معلوما في الحال .

التالي السابق


الخدمات العلمية