الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثم موجب عقد الكتابة أن يكون هو أحق بكسبه واشتراط ما اكتسبه قبل العقد ليس من جنس ما هو موجب العقد فيكون داخلا في هذا الإيجاب ، فأما مال المولى الذي ليس من كسب العبد ليس بجنس ما هو موجب العقد فلا يستحقه بهذه التسمية ، وإن كاتبه على أن يخدمه شهرا فهو جائز استحسانا .

وفي القياس لا يجوز ; لأن الخدمة غير معلومة وفيما لا يصح إلا بتسمية البدل لا بد من أن يكون المسمى معلوما ، ثم خدمته مستحقة لمولاه بملكه رقبته ، وإنما يجوز عقد الكتابة إذا كان يستحق به المولى ما لم يكن مستحقا له ولكنه استحسن ، فقال : أصل الخدمة معلوم بالعرف ومقداره ببيان المدة ، وإنما تكون الجهالة في الصفة وذلك لا يمنع صحة تسميته في الكتابة كما لو كاتبه على عبد أو ثوب هروي ، ثم المولى وإن كان يستخدمه قبل الكتابة فلم يكن ذلك دينا له في ذمة العبد وبتسميته في العقد يصير واجبا له في ذمته فهو بمنزلة الكسب كان مستحقا لمولاه قبل العقد ، وإنما يؤدي بدل الكتابة من ذلك الكسب ولكن لما كان وجوبه في الذمة بالتسمية في العقد صح العقد بتسميته وكذلك إن كاتبه على أن يحفر له بئرا قد سمى طولها وعرضها وأراه مكانها أو على أن يبني له دارا قد أراه آجرها وجصها وما يبني بها فهو على القياس ، والاستحسان الذي قلنا ، وإن كاتبه على أن يخدم رجلا [ ص: 6 ] شهرا فهو جائز في القياس ; لأن المولى إنما يشترط الخدمة لنفسه ، ثم يجعل غيره نائبا في الاستيفاء فهو واشتراطه الاستيفاء بنفسه سواء إلا أنه قال هنا يجوز في القياس بخلاف الأول ; لأن خدمته لم تكن مستحقة لذلك الرجل قبل العقد ، وإنما تصير مستحقة بقبوله بالعقد ، فأما خدمته لمولاه وحفر البئر وبناء الدار كان مستحقا له قبل العقد بملك رقبته وذلك الملك يبقى بعد الكتابة فبهذا الحرف يفرق بينهما في وجه القياس .

وإن كاتبه على ألف درهم يؤديها إلى غريم له فهو جائز ; لأنه شرط المال لنفسه بالعقد ، ثم أمره بأن يقضي دينا عليه وجعل الغريم نائبا في قبضه منه وقبض نائبه كقبضه بنفسه ، وكذلك إن كاتبه على ألف درهم يضمنها لرجل عن سيده فالكتابة ، والضمان جائزان وهذا ليس بضمان هو تبرع من المكاتب بل هو التزام أداء مال الكتابة إلى من أمره المولى بالأداء إليه ولا فرق في حقه بين أن يلتزم الأداء إلى المولى وبين أن يلتزم الأداء إلى من أمره المولى بالأداء إليه ، وإن ضمن لرجل مالا بغير إذن سيده سوى الكتابة لم يجز ; لأنه إنما يضمن المال ليؤديه من كسبه وكسبه لا يحتمل التبرع فكذلك التزامه بطريق التبرع ليؤديه من كسبه لا يجوز ، وهذا ; لأنه بقي عبدا بعد الكتابة ولا يجب المال في ذمة العبد إلا شاغلا لمالية رقبته أو كسبه فإذا كان بطريق التبرع لم يكن شغل كسبه فلا يثبت دينا في ذمته للحال وكذلك إن أذن له المولى في ذلك ; لأن المولى ممنوع من التبرع بكسبه فلا يعتبر إذنه في ذلك وبه فارق القن فإنه لو كفل بإذن مولاه صح ; لأن المولى مالك للتبرع بمالية رقبته وكسبه فإذا أذن له في هذا الالتزام يثبت المال في ذمته متعلقا بمالية رقبته فكان صحيحا ، وإن ضمن عن السيد لغريم له بمال على أن يؤديه من المكاتبة أو قبل الحوالة به فهو جائز ; لأنه لا يتحقق معنى التبرع في هذا الالتزام فإنه مطلوب ببدل الكتابة سواء كان طالبه به المولى أو المضمون له ; ولأن دين الكتابة وجب في ذمته شاغلا لكسبه حتى يؤديه من كسبه فما يلتزم أداؤه من الكتابة فهو متمكن من أداء ذلك من كسبه فلهذا صح هذا الضمان .

وإن كاتبه على مال منجم ، ثم صالحه على أن يعجل بعضها ويحط عنه ما بقي فهو جائز ; لأنه عبده ، ومعنى الإرفاق فيما يجري بينهما أظهر من معنى المعاوضة فلا يكون هذا مقابلة الأجل ببعض المال ولكنه إرفاق من المولى بحط بعض البدل ، وهو مندوب إليه في الشرع ومساهلة من المكاتب في تعجيل ما بقي قبل حل الأجل ليتوصل به إلى شرف الحرية ، وهو مندوب إليه في الشرع أيضا بخلاف ما لو جرت [ ص: 7 ] هذه المعاملة بين حرين ; لأن معنى المعاوضة فيما بينهما يغلب على معنى الإرفاق فيكون هذا مبادلة الأجل بالدراهم ، ومبادلة الأجل بالدراهم ربا وكذلك إن صالحه من الكتابة على شيء بعينه فهو جائز ; لأن دين الكتابة يحتمل الإسقاط بالإبراء وقبضه غير مستحق فالاستبدال به صحيح كالثمن في البيع وهذا ; لأن في الاستبدال إسقاط القبض بعوض وإذا جاز إسقاط القبض بما هو إبراء حقيقة وحكما بغير عوض فكذلك بالعوض ، وإن فارقه قبل القبض لم يفسد الصلح ; لأنه افتراق عن عين بدين ألا ترى أنه لو اشترى ذلك الشيء بعينه بما عليه من الكتابة جاز وإن لم يقبضه في المجلس وإن صالحه على عرض أو غيره مؤجل لم يجز ; لأنه دين بدين { ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكالئ بالكالئ } فإن كاتبه على ألف درهم منجمة على أن يؤدي إليه مع كل نجم ثوبا قد سمى جنسه أو على أن يؤدي مع كل نجم عشرة دراهم فذلك جائز ; لأن ما ضمه إلى المسمى في كل نجم يكون بدلا مشروطا عليه بمنزلة الألف الذي ذكره أولا ، والثوب الذي هو مسمى الجنس يصلح أن يكون بدلا في الكتابة ; لأنه مبني على التوسع فكان هذا بمنزلة قوله كاتبتك على كذا وكذا ، وهو صحيح يتضح فيما ذكر بعده أنه لو قال له على أن تؤدي مع مكاتبتك ألف درهم ; لأنه لا فرق بين أن يقول كاتبتك على ألف درهم أو يقول على ألف درهم وألف درهم وإذا ثبت أن جميع ذلك بدل فإذا عجز عن أداء شيء منه بعد حله رد في الرق .

وإن كاتبه على ألف درهم فأداها ، ثم استحقت من يد المولى فالمكاتب حر لوجود شرط عتقه ، وهو الأداء ، والعتق بعد وقوعه لا يحتمل الفسخ فالأداء وإن بطل بالاستحقاق بعد الوجود لا يبطل العتق ; ولأن المكاتبة لم تقع على هذه الألف بعينها يريد به أن بدل الكتابة كان في ذمته وما يؤديه عوض عن ذلك فإن الديون تقتضى بأمثاله لا بأعيانها وبدل المستحق مملوك للمولى بالقبض ، والمكاتب قابض لما في ذمته فيكون مملوكا له وإن كان بدله مستحقا ، ومن ملك ما في ذمته سقط عنه ذلك فلهذا كان حرا ويرجع عليه السيد بألف مكانها ; لأن قبضه قد انتقض بالاستحقاق فكأنه لم يقبض أو وجد المقبوض زيوفا فرده فلهذا رجع بألف مكانها ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع ، والمآب .

التالي السابق


الخدمات العلمية