الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              179 باب في قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ، يحاسبكم به الله

                                                                                                                              وقال النووي - في الجزء الأول - (باب بيان تجاوز الله تعالى : عن حديث النفس ، والخواطر بالقلب «إذا لم تستقر » ، وبيان أنه سبحانه وتعالى : لم يكلف إلا ما يطاق ، وبيان حكم الهم : بالحسنة ، وبالسيئة ) .

                                                                                                                              (حديث الباب )

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ، ص 145 ، 146 ج 2 ، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [ ص: 644 ] (عن أبي هريرة ؛ قال : لما نزلت على رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير .

                                                                                                                              قال : فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فأتوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ثم بركوا على الركب ، فقالوا : أي رسول الله ! كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة .

                                                                                                                              وقد أنزلت عليك : هذه الآية ، ولا نطيقها .

                                                                                                                              قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : «أتريدون أن تقولوا -كما قال أهل الكتابين من قبلكم- : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا ، وإليك المصير » .

                                                                                                                              قالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا ، وإليك المصير .

                                                                                                                              فلما اقترأها القوم : ذلت بها ألسنتهم . فأنزل الله -في إثرها- : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .

                                                                                                                              فلما فعلوا ذلك : نسخها الله تعالى ؛ فأنزل الله عز وجل : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : نعم » . [ ص: 645 ] ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال : نعم » . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال : نعم » . واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال : نعم » ) .


                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة ) رضي الله عنه ؛ (قال : لما نزلت على رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : « لله ما في السماوات وما في الأرض ، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير قال ) إنما أعاد لفظة «قال » : لطول الكلام . فإن أصل الكلام : «لما نزلت اشتد » . فلما طال : حسن إعادة لفظة «قال » . وإنه جاء مثله في القرآن العزيز ، في قوله تعالى : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون فأعاد «أنكم » ، وقوله : «ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم » إلى قوله : «فلما جاءهم » .

                                                                                                                              (فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم فأتوا رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم بركوا على الركب ، [ ص: 646 ] فقالوا : أي رسول الله ! كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة . وقد أنزلت عليك هذه الآية . لا نطيقها . قال رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم- : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » . قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا ، وإليك المصير . فلما اقترأها القوم : ذلت بها ألسنتهم ، فأنزل الله في إثرها ) هو بفتح الهمزة والثاء ، وبكسر الهمزة مع إسكان الثاء : لغتان ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) أي : لا نفرق بينهم في الإيمان فنؤمن ببعضهم ونكفر ببعض ؛ كما فعله أهل الكتابين . بل نؤمن بجميعهم .

                                                                                                                              «وأحد » في هذا الموضع ، بمعنى «الجميع » . ولهذا دخلت فيه «بين » .

                                                                                                                              ومثله قوله تعالى : « فما منكم من أحد عنه حاجزين .

                                                                                                                              ( وقالوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا ، وإليك المصير . فلما فعلوا ذلك : نسخها الله تعالى ؛ فأنزل الله عز وجل : « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت . ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا «قال : نعم » . [ ص: 647 ] « ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . «قال : نعم » . « ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . «قال : نعم » . « واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين «قال : نعم » ) .

                                                                                                                              هذا الحديث ؛ أخرجه أيضا : أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم .

                                                                                                                              وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي (عن ابن عباس ، مرفوعا ) : نحوه . وزاد : «فأنزل الله : « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . (قال : قد فعلت ) . « ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا (قال : قد فعلت ) ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به (قال : قد فعلت ) . واعف عنا واغفر لنا وارحمنا . . . الآية (قال : قد فعلت ) .

                                                                                                                              وقد رويت هذه القصة «عن ابن عباس » : من طرق . ومما يؤيد ذلك : ما ثبت في الصحيحين ، والسنن الأربع : من حديث « أبي هريرة » ؛ قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : « إن الله تجاوز لي عن أمتي : ما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم ، أو تعمل به » .

                                                                                                                              [ ص: 648 ] وقد نظم بعضهم : مراتب القصد ، بقوله :


                                                                                                                              مراتب القصد خمس : هاجس ذكروا وخاطر فحديث النفس ، فاستمعا يليه هم ، فعزم ، كلها رفعت
                                                                                                                              سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا



                                                                                                                              وتمام الكلام على هذا المرام ، في تفسيرنا (فتح البيان )، إن شئت فراجعه .

                                                                                                                              قال النووي : قال المازري : يحتمل أن يكون إشفاقهم ، وقولهم : «لا نطيقها » : لكونهم اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه : من الخواطر ، التي لا تكتسب . فلهذا رأوه من قبيل ما لا يطاق . وعندنا أن تكليف «ما لا يطاق » : جائز عقلا . واختلف هل وقع التعبد به في الشريعة ، أم لا ؟ والله أعلم .

                                                                                                                              قال : وفي تسمية هذا «نسخا » : نظر ، لأنه إنما يكون نسخا ، إذا تعذر البناء ، ولم يمكن رد إحدى الآيتين إلى الأخرى . وقوله تعالى : « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه : عموم ، يصح أن يشتمل على : ما يملك من الخواطر ، دون ما لا يملك . فتكون الآية الأخرى : مخصصة . إلا أن يكون قد فهمت الصحابة - بقرينة الحال - أنه تقرر تعبدهم بما لا يملك من الخواطر ، فيكون حينئذ نسخا . لأنه رفع ثابت مستقر . انتهى .

                                                                                                                              [ ص: 649 ] قال عياض : لا وجه لإبعاد النسخ - في هذه القضية - ، فإن راويها ، قد روى فيها النسخ ، ونص عليه لفظا ومعنى : بأمر النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم : بالإيمان ، والسمع ، والطاعة : لما أعلمهم الله تعالى من مؤاخذته إياهم . فلما فعلوا ذلك ، وألقى الله تعالى الإيمان في قلوبهم ، وذلت بالاستسلام لذلك : ألسنتهم ، كما نص عليه في هذا الحديث : رفع الحرج عنهم ، ونسخ هذا التكليف . «وطريق علم النسخ » : إنما هو بالخبر عنه ، أو بالتاريخ ، وهما مجتمعان في هذه الآية .

                                                                                                                              قال : وقول المازري : إنما يكون نسخا إذا تعذر البناء : كلام صحيح ، فيما لم يرد فيه النص بالنسخ . فإن ورد : وقفنا عنده . لكن اختلف أصحاب الأصول في قول الصحابي : «نسخ كذا بكذا » ؛ هل يكون حجة يثبت به النسخ ، أم لا يثبت بمجرد قوله ؟ وهو قول القاضي «أبي بكر » ، والمحققين منهم ، لأنه قد يكون قوله هذا عن اجتهاده وتأويله ، فلا يكون نسخا ، حتى ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                              وقد اختلف الناس في هذه الآية ؛

                                                                                                                              فأكثر المفسرين - من الصحابة ، ومن بعدهم - : على ما تقدم فيها من النسخ . وأنكره بعض المتأخرين . قال : لأنه خبر ولا يدخل النسخ الأخبار . وليس كما قال هذا المتأخر ، فإنه - وإن كان خبرا - فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة : بما تكن النفوس . والتعبد بما أمرهم النبي ، صلى الله [ ص: 650 ] عليه وسلم في الحديث بذلك ، وأن يقولوا : سمعنا وأطعنا . وهذه أقوال وأعمال : اللسان ، والقلب . ثم نسخ ذلك عنهم : برفع الحرج ، والمؤاخذة .

                                                                                                                              وروي عن بعض المفسرين : أن معنى النسخ هنا : «إزالة ما وقع في قلوبهم من الشدة والفرق : من هذا الأمر » ، فأزيل عنهم : بالآية الأخرى ، واطمأنت نفوسهم . وهذا القائل يرى : أنهم لم يلزموا : ما لا يطيقون ، لكن ما يشق عليهم من «التحفظ من خواطر النفس ، وإخلاص الباطن » ، فأشفقوا أن يكلفوا من ذلك : ما لا يطيقون ، فأزيل عنهم الإشفاق ، وبين أنهم «لم يكلفوا إلا وسعهم » . وعلى هذا : لا حجة فيه لجواز تكليف ما لا يطاق ، إذ ليس فيه نص على تكليفه .

                                                                                                                              واحتج بعضهم : باستعاذتهم منه ، بقوله تعالى : «ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به » ، ولا يستعيذون إلا مما يجوز التكليف به .

                                                                                                                              وأجاب عن ذلك بعضهم : بأن معنى ذلك : «ما لا نطيقه إلا بمشقة » .

                                                                                                                              وذهب بعضهم : إلى أن الآية محكمة في إخفاء اليقين والشك - للمؤمنين والكافرين - ؛ فيغفر للمؤمنين ، ويعذب الكافرين . هذا آخر كلام عياض . وذكر الواحدي الاختلاف في نسخ الآية ، ثم قال : المحققون يختارون أن تكون الآية محكمة ، غير منسوخة . والله أعلم . انتهى .




                                                                                                                              الخدمات العلمية