الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثامن إذا : كان له نسوة فينبغي أن يعدل بينهن ولا يميل إلى بعضهن فإن خرج إلى سفر وأراد استصحاب واحدة أقرع بينهن .

كذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ظلم امرأة بليلتها قضى لها فإن القضاء واجب عليه ، وعند ذلك يحتاج إلى معرفة أحكام القسم ، وذلك يطول ذكره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى ، وفي لفظ ولم : يعدل بينهما ، جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل .

وإنما عليه العدل في العطاء والمبيت وأما ، في الحب والوقاع ، فذلك لا يدخل تحت الاختيار .

قال الله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ، أي أن تعدلوا : في شهوة القلب ، وميل النفس ويتبع ذلك التفاوت في الوقاع .

وكان ، رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل بينهن في العطاء ، والبيتوتة في الليالي ويقول : اللهم هذا جهدي فيما أملك ، ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك يعني الحب .

وقد ، كانت عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه وسائر نسائه يعرفن ذلك .

وكان يطاف به محمولا في مرضه في كل يوم ، وكل ليلة ، فيبيت عند كل واحدة منهن ، ويقول : أين أنا غدا ؟ ففطنت لذلك امرأة منهن فقالت إنما : يسأل عن يوم عائشة ، فقلن يا رسول الله : قد أذنا لك أن تكون في بيت عائشة ، فإنه يشق عليك أن تحمل في كل ليلة ، فقال : وقد رضيتن بذلك ؟ فقلن : نعم . قال : فحولوني إلى بيت عائشة .

ومهما وهبت واحدة ليلتها لصاحبتها ، ورضي الزوج بذلك ثبت الحق لها .

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ، فقصد أن يطلق سودة بنت زمعة لما كبرت .

فوهبت ليلتها لعائشة وسألته : أن يقرها على الزوجية ; حتى تحشر في زمرة نسائه فتركها وكان لا يقسم لها ، ويقسم لعائشة ليلتين ، ولسائر أزواجه ليلة ليلة .

ولكنه صلى الله عليه وسلم عدله وقوته ، كان إذا تاقت نفسه إلى واحدة من النساء في غير نوبتها فجامعها طاف في يومه أو ليلته على سائر نسائه فمن ذلك : ما روي عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة واحدة .

وعن أنس : أنه صلى الله عليه وسلم : طاف على تسع نسوة في ضحوة نهار .

التالي السابق


(الثامن: إن كان له نسوة) متعددة (فينبغي أن يعدل بينهن) بالسوية (ولا يميل إلى بعضهن) ويترك البعض (وإن خرج إلى سفر وأراد استصحاب واحدة) منهن (أقرع بينهن) أي: ضرب القرعة، بأن يكتب أسماءهن في رقاع بحضرتهن، ثم يرمي الرقاع مرة واحدة ويخلطها مع البعض، ثم يمد يده فيأخذ ورقة، فأيهن طلع اسمها أخذها، وذلك تطييبا لخاطرهن (كذلك كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) كان يقرع بين أزواجه إذا أراد سفرا، أخرجه البخاري ومسلم، من حديث عائشة، قلت: وكذا أبو داود، وابن ماجه، ولفظهم جميعا: كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. (فإن ظلم امرأة بليلتها) بأن لم يبت معها، بل بات عند غيرها (قضى لها) ليلة أخرى (فإن القضاء واجب عليه، وعند ذلك يحتاج إلى معرفة أحكام القسم، وذلك يطول ذكره) .

قال المصنف في الوجيز: ولا يجب القسم على من له زوجة واحدة أن يبيت عندها، لكن يستحب ذلك; لتحصينها، ولا يجب القسم بين المستولدات وبين الإماء، ولا بينهن وبين المنكوحات، لكن الأولى العدل، وكف الإيذاء، ومن له منكوحات فإن أعرض عنهن جاز، وإن بات ليلة واحدة عند واحدة، لزمه مثلها للباقيات، وتستحق المريضة، والرتقاء، والحائض، والنفساء، والمحرمة، والتي آلى منها زوجها، أو ظاهر، وكل من بها عذر شرعي، أو طبيعي; لأن المقصود الأنس، والسكن، دون الوقاع، وأما الناشز: فلا تستحق، فلو كان يدعوهن إلى منزله فأبت واحدة سقط حقها، وإن كان يساكن واحدة ويدعو الباقيات، ففي جواز ذلك تردد; لما فيه من التخصيص، والمسافرة بغير إذنه ناشز، وإن سافرت بإذنه في غرضه فحقها قائم، وتستحق القضاء، وإن كان في غرضها لم تستحق القضاء في القول الجديد .

ويجب القسم على كل زوج عاقل، قال الشافعي: وعلى الولي أن يطوف بالمجنون على نسائه، ويرعى العدل في القسم، فلو كان يجن ويفيق، فلا يخص واحدة بنوبة الإفاقة، إن كان مضبوطا، وإن لم يكن وأفاق في نوبة واحدة، قضى للأخرى ما جرى في الجنون; لنقصان حقها .

وأما مكان القسم: فلا يجوز له أن يجمع بين ضرتين في مسكن واحد، إلا إذا انفصلت المرافق، وله أن يستدعيهن إلى بيته على التناوب .

وأما زمانه: فعماده الليل، والنهار تبع، إلا فى حق الأتون والحارس، فإن سكونهما بالنهار، ولا يحل أن يدخل في نوبتها على ضرتها بالليل، إلا لمرض مخوف، وأما بالنهار فيجوز لغرض مهم وإن لم يكن مرض، وقيل: النهار كالليل، وقيل: لا حجر في النهار، فإن خرج إلى ضرتها بالليل ومكث، قضى مثل ذلك من نوبة الأخرى، وإن لم يمكث زمانا محسوبا فالظاهر أنه يعصي ولا يقضي، وإن دخل ووطئ فقد أفسد تلك الليلة في وجه، فلا يعتد بها وفي وجه يقضي الجماع فقط، وفي وجه يقضي تلك المدة ولا يكلف الوقاع; لأنه تحت الاختيار .

وأما مقداره: فأقله: ليلة، ولا يجوز تنصيف الليلة; لأنه تنغيص العيش، وأكثره: ثلاث ليال، وقيل: سبع، وقيل: لا تقدير، بل هو إلى اختياره، ثم القرعة تحكم فيمن به البداءة، وقيل: هو إلى خبرته; لأنه ما لم يبت عند واحدة لا يلزمه شيء لغيره، والله أعلم .

(وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من كان له امرأتان فمال [ ص: 368 ] إلى إحداهن دون الأخرى، وفي لفظ: لم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل) . قال العراقي: رواه أصحاب السنن، وابن حبان، من حديث أبي هريرة، قال أبو داود: فمال مع إحداهما. وقال الترمذي: فلم يعدل بينهما. اهـ. قلت: وكذلك رواه الطيالسي، وأحمد، والبيهقي، بلفظ: من كانت. وفي لفظ عندهم: فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل. وعند ابن جرير: يميل مع إحداهما على الأخرى. وفيه: ساقط بدل مائل (وإنما عليه العدل) والتسوية (في العطاء) أي: النفقة، والكسوة (والمبيت، أما في الحب) وميل القلب (والوقاع، فذلك لا يدخل تحت الاختيار) البشري (قال الله تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ، أي: لا تعدلون في شهوة القلب، وميل النفس) هكذا جاء في تفسير هذه الآية، ولفظ القوت: أي: لا تقدرون على العدل بينهن في الحب، والجماع; لأن ذلك جعل الله في القلوب، وفي شهوة النفوس، اهـ. (ويتبع ذلك التفاوت في الوقاع، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعدل بينهن) أي في زوجاته التسع (في العطاء، والبيتوتة، في الليالي، و) كان (يقول: اللهم هذا جهدي فيما أملك، ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك) . قال العراقي: رواه أصحاب السنن، وابن حبان، من حديث عائشة نحوه، قلت: وكذا أجد، ولفظهم جميعا: كان يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك (يعني الحب) ولفظ القوت: يعني في المحبة، والجماع (وقد كان يحب بعضهن أكثر من بعض، وقد كانت عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه) كما جاء في الخبر، عن عمرو بن العاص، أنه قال: أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: أبو بكر، قال: ومن النساء؟ قال: بنته... الحديث رواه البخاري ومسلم، وقد تقدم ذلك. (وسائر نسائه يعرفن ذلك) أي: حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها (فكان يطاف به محمولا في مرضه في كل يوم، وكل ليلة، فيبيت عند كل واحدة، ويقول: أين أنا غدا؟ ففطنت امرأة منهن فقالت: إنه يسأل عن يوم عائشة، فقلن يا رسول الله: قد أذنا لك أن تكون في بيت عائشة، فإنه يشق عليك أن تحمل كل ليلة، فقال: وقد رضيتن بذلك؟ فقلن: نعم. قال: فحولوني إلى بيت عائشة) . كذا نقله صاحب القوت، قال العراقي: رواه ابن سعد في الطبقات، من رواية محمد بن علي بن الحسين: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحمل في ثوب، يطاف به على نسائه، وهو مريض، يقسم بينهن. وفي مرسل آخر له: لما ثقل قال: أين أنا غدا؟ فقالوا عند فلانة، قال: فأين أنا بعد غد؟ قالوا: عند فلانة، فعرف أزواجه أنه يريد عائشة، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء. وفي الصحيحين لما ثقل استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له. اهـ .

(ومهما وهبت واحدة) منهن (ليلتها لصاحبتها، ورضي الزوج) بذلك (ثبت الحق لها) أي: للتي وهب لها (وكذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) كان (يقسم بين نسائه، فقصد أن يطلق سودة بنت زمعة) هي إحدى أمهات المؤمنين، رضي الله عنها (لما كبرت) سنها (فوهبت ليلتها لعائشة) رضي الله عنها (وسألته: أن يقرها على الزوجية; حتى تحشر في زمرة نسائه) يوم القيامة، فتركها ولم يطلقها (وكان لا يقسم لها، ويقسم لعائشة ليلتين، ولسائر أزواجه ليلة ليلة) قال العراقي: رواه أبو داود، من حديث عائشة، قالت سودة حين أسنت، وفرقت أن يفارقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله يومي لعائشة... الحديث. وللطبراني: فأراد أن يفارقها. وهو عند البخاري بلفظ: لما أن كبرت سودة وهبت يومها لعائشة، فكان يقسم لها بيوم سودة. وللبيهقي مرسلا: طلق سودة فقالت: أريد أن أحشر في أزواجك... الحديث. اهـ. قلت: وروى البخاري في كتاب النكاح، من حديث عطاء، قال: حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف، فقال: هذه زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا رفعتم نعشها، فلا تزعزعوها، ولا تزلزلوها، وارفقوا، فإنه كانت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- تسع، وكان يقسم لواحدة. وكذلك أخرجه مسلم، والنسائي، وقد كانت سودة آخر أمهات المؤمنين موتا، رضي الله عنهن .

واختلف العلماء في أنه -صلى الله عليه وسلم- هل كان يلزمه القسم بينهن في الدوام والمساواة في ذلك، كما يلزم غيره، أم لا يلزمه ذلك بل يفعل ما يشاء من إيثار، وحرمان؟ والأصح عند الشيخ أبي حامد، والعراقيين، والبغوي: وجوب القسم كغيره، وإنما قال بعدم وجوبه: [ ص: 369 ] الإصطخري، وأجمع المسلمون على أن محبتهن لا تكليف فيها، ولا يلزمه التسوية فيها; لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا الله سبحانه، وإنما يؤمر بالعدل في الأفعال، والله أعلم. (ولكنه -صلى الله عليه وسلم- لحسن عدله وقوته، كان إذا تاقت نفسه إلى واحدة من النساء في غير يومها) أوليلتها، فجامعها (طاف في يومه) أو ليلته (على سائر نسائه) أي: باقيهن (فمن ذلك: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طاف على نسائه في ليلة واحدة) قال العراقي: متفق عليه بلفظ: كنت أطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرما ينضخ طيبا. (وعن أنس رضي الله عنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- طاف على تسع نسوة ضحوة نهار) . ولفظ القوت: في ضحوة. قال العراقي: رواه ابن عدي في الكامل، وللبخاري: كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة وله تسع نسوة. اهـ. قلت: قال البخاري في كتاب النكاح: حدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة وله تسع نسوة. ورواه في كتاب الغصب، وهن إحدى عشرة، لكن قال ابن خزيمة: تفرد بذلك معاذ بن هشام، عن أبيه، وجمع ابن حبان في صحيحه بين الروايتين، بالحمل على حالتين، وقد تقدم شيء من ذلك قريبا .




الخدمات العلمية