الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4974 سورة النور : باب في قوله تعالى : « إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم

                                                                                                                              وقال النووي : (باب في حديث الإفك ، وقبول توبة القاذف ) .

                                                                                                                              (حديث الباب )

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ، ص 102 - 114 ، ج17 ، المطبعة المصرية

                                                                                                                              قال الإمام مسلم : (حدثنا حبان بن موسى ؛ أخبرنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا يونس بن يزيد الأيلي . ح وحدثنا إسحق بن إبراهيم الحنظلي ، ومحمد بن رافع ، وعبد بن حميد : -قال : ابن رافع : حدثنا . وقال الآخران : أخبرنا -عبد الرزاق ؛ أخبرنا معمر . [ ص: 728 ] والسياق : حديث معمر ، من رواية عبد وابن رافع .

                                                                                                                              قال يونس ومعمر (جميعا (عن الزهري ؛ أخبرني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ؛ عن حديث عائشة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- حين قال : لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله مما قالوا . وكلهم حدثني طائفة من حديثها . وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض ، وأثبت اقتصاصا . وقد وعيت عن كل واحد منهم : الحديث الذي حدثني . وبعض حديثهم يصدق بعضا ؛ ذكروا : أن عائشة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- قالت : كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إذا أراد أن يخرج سفرا : أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها : خرج بها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، معه .

                                                                                                                              قالت عائشة : فأقرع بيننا في -غزوة غزاها- فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، -وذلك بعد ما أنزل الحجاب- فأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه : مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، من غزوه وقفل ، ودنونا من المدينة : آذن -ليلة- بالرحيل ، فقمت -حين آذنوا بالرحيل- فمشيت ، حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني : أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عقدي -من جزع ظفار- قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه . وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي ، فحملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب -وهم يحسبون أني فيه- .

                                                                                                                              [ ص: 729 ] قالت : وكانت النساء -إذ ذاك- خفافا ، لم يهبلن ، ولم يغشهن اللحم . إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم : ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه . وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي -بعد ما استمر الجيش- ، فجئت منازلهم ، وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه . وظننت : أن القوم سيفقدوني ، فيرجعون إلي .

                                                                                                                              فبينا أنا جالسة في منزلي : غلبتني عيني ، فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ، ثم الذكواني : قد عرس من وراء الجيش ، فادلج ، فأصبح عند منزلي : فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني -حين رآني- وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي ، فاستيقظت باسترجاعه ، حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ! ما يكلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة : غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يدها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش ، بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة ، فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره : عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقدمنا المدينة ، فاشتكيت -حين قدمنا المدينة- شهرا ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي : أني لا أعرف من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : اللطف الذي كنت أرى منه -حين أشتكي- إنما يدخل رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فيسلم ، ثم يقول : «كيف تيكم ؟ » فذاك يريبني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعد ما نقهت ، وخرجت معي أم مسطح ، قبل المناصع -وهو متبرزنا- ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك [ ص: 730 ] قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا : أمر العرب الأول ، في التنزه . وكنا نتأذى بالكنف : أن نتخذها عند بيوتنا .

                                                                                                                              فانطلقت أنا وأم مسطح -وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها : ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ، وابنها : مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب- .

                                                                                                                              فأقبلت أنا وبنت أبي رهم : قبل بيتي ، حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح . فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟

                                                                                                                              قالت : أي هنتاه ! أولم تسمعي ما قال ؟ قلت : وماذا قال ؟

                                                                                                                              قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي .

                                                                                                                              فلما رجعت إلى بيتي ، فدخل علي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فسلم ، ثم قال : «كيف تيكم ؟ » .

                                                                                                                              قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ -قالت : وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما- فأذن لي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ! ما يتحدث الناس ؟

                                                                                                                              فقالت : يا بنية ! هوني عليك ، فوالله ! لقلما كانت امرأة -قط- وضيئة عند رجل يحبها ، ولها ضرائر : إلا كثرن عليها .

                                                                                                                              قالت : قلت : سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ؟

                                                                                                                              قالت : فبكيت -تلك الليلة- حتى أصبحت ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي . ودعا رسول الله ، صلى الله عليه [ ص: 731 ] وسلم : علي بن أبي طالب ، ، وأسامة بن زيد -حين استلبث الوحي- يستشيرهما في فراق أهله ؛

                                                                                                                              قالت : فأما أسامة بن زيد ، فأشار على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه لهم : من الود ؛ فقال : يا رسول الله ! هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا .

                                                                                                                              وأما علي بن أبي طالب ، فقال : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية : تصدقك .

                                                                                                                              قالت : فدعا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : بريرة ، فقال : «أي بريرة ! هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ » .

                                                                                                                              قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ! إن رأيت عليها أمرا -قط- أغمصه عليها : أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله .

                                                                                                                              قالت : فقام رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، على المنبر ، فاستعذر من عبد الله بن أبي ، ابن سلول ؛

                                                                                                                              قالت : فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم -وهو على المنبر- : «يا معشر المسلمين ! من يعذرني من رجل ، قد بلغ أذاه في أهل بيتي . فوالله ! ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ، ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي : إلا معي » ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري ؛ فقال : أنا أعذرك منه ، يا رسول الله ! إن كان من الأوس : ضربنا عنقه . وإن كان من إخواننا الخزرج : أمرتنا ، ففعلنا أمرك . قالت :

                                                                                                                              [ ص: 732 ] فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج- وكان رجلا صالحا ، ولكن اجتهلته الحمية ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، لعمر الله ! لا تقتله ، ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ- ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله ! لنقتلنه ، فإنك منافق ، تجادل عن المنافقين .

                                                                                                                              فثار الحيان «الأوس ، والخزرج » ، حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قائم على المنبر . فلم يزل رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يخفضهم حتى سكتوا ، وسكت .

                                                                                                                              قالت : وبكيت -يومي ذلك- لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت -ليلتي المقبلة- لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان : أن البكاء فالق كبدي .

                                                                                                                              فبينما هما جالسان عندي -وأنا أبكي- ، استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي .

                                                                                                                              قالت : فبينا نحن على ذلك : دخل علينا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فسلم ، ثم جلس .

                                                                                                                              قالت : ولم يجلس عندي ، منذ قيل لي ما قيل -وقد لبث شهرا ، لا يوحى إليه في شأني بشيء- .

                                                                                                                              قالت : فتشهد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم -حين جلس- ثم قال : «أما بعد ! يا عائشة ! فإنه قد بلغني عنك : كذا ، وكذا . فإن كنت بريئة : فسيبرئك الله . وإن كنت ألممت بذنب : فاستغفري الله ، وتوبي إليه ؛ فإن العبد ، إذا اعترف بذنب ، ثم تاب : تاب الله عليه » .

                                                                                                                              [ ص: 733 ] قالت : فلما قضى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، مقالته : قلص دمعي ، حتى ما أحس منه قطرة ،

                                                                                                                              فقلت لأبي : أجب عني رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فيما قال .

                                                                                                                              فقال : والله ! ما أدري : ما أقول لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                              فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                              فقالت : والله ! ما أدري : ما أقول لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                              فقلت -وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ كثيرا من القرآن- : إني والله ! لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا ، حتى استقر في نفوسكم ، وصدقتم به ؛

                                                                                                                              فإن قلت لكم : إني بريئة (والله يعلم أني بريئة ) : لا تصدقوني بذلك .

                                                                                                                              ولئن اعترفت لكم بأمر (والله يعلم أني بريئة ) : لتصدقونني .

                                                                                                                              وإني -والله !- ما أجد لي ولكم مثلا ، إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون . قالت : ثم تحولت ، فاضطجعت على فراشي .

                                                                                                                              قالت : وأنا -والله !- حينئذ ، أعلم أني بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي . ولكن -والله !- ما كنت أظن أن ينزل -في شأني- وحي يتلى . ولشأني كان أحقر -في نفسي- من أن يتكلم الله عز وجل في : [ ص: 734 ] بأمر يتلى . ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في النوم -رؤيا يبرئني الله بها .

                                                                                                                              قالت : فوالله ! ما رام رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى أنزل الله عز وجل ، على نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، فأخذه : ما كان يأخذه ، من البرحاء -عند الوحي- حتى إنه ليتحدر منه : مثل الجمان ، من العرق ، في اليوم الشات -من ثقل القول الذي أنزل عليه- .

                                                                                                                              قالت : فلما سري عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم -وهو يضحك- ، فكان أول كلمة تكلم بها ؛ أن قال : «أبشري يا عائشة ! أما الله فقد برأك » .

                                                                                                                              فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : والله ! لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله ، هو الذي أنزل براءتي .

                                                                                                                              قالت : فأنزل الله عز وجل : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم عشر آيات .

                                                                                                                              فأنزل الله عز وجل : هؤلاء الآيات ، براءتي .

                                                                                                                              قالت : فقال أبو بكر ، -وكان ينفق على مسطح لقرابته منه ، وفقره- : والله ! لا أنفق عليه : شيئا أبدا -بعد الذي قال لعائشة - ، فأنزل الله عز وجل : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى إلى قوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم .

                                                                                                                              قال حبان بن موسى : قال عبد الله بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله .

                                                                                                                              [ ص: 735 ] فقال أبو بكر : والله ! إني لأحب أن يغفر الله لي ؛ فرجع إلى مسطح : النفقة ، التي كان ينفق عليه ، وقال : لا أنزعها منه أبدا .

                                                                                                                              قالت عائشة : وكان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، سأل زينب بنت جحش (زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) عن أمري : ما علمت ؟ أو ما رأيت ؟

                                                                                                                              فقالت : يا رسول الله ! أحمي سمعي ، وبصري . والله ! ما علمت إلا خيرا . قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني -من أزواج النبي ، صلى الله عليه وسلم- ، فعصمها الله بالورع . وطفقت أختها «حمنة بنت جحش » تحارب لها ، فهلكت -فيمن هلك- .


                                                                                                                              قال الزهري : فهذا ما انتهى إلينا ، من أمر هؤلاء الرهط .

                                                                                                                              وقال -في حديث يونس- : احتملته الحمية ) .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ؛ عن حديث عائشة ، رضي الله عنها - زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم - عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها [ ص: 736 ] الله مما قالوا . وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وكان بعضهم أوعى لحديثها من بعض ، وأثبت اقتصاصا ) أي : أحفظ ، وأحسن : إيرادا ، وسردا للحديث .

                                                                                                                              (وقد وعيت عن كل واحد منهم : الحديث الذي حدثني . وبعض حديثهم يصدق بعضا ) . هذا الذي ذكره الزهري ، من جمعه الحديث عنهم : جائز لا منع منه ، ولا كراهة فيه ، لأنه قد بين بعض الحديث عن بعضهم ، وبعضه عن بعضهم . وهؤلاء الأربعة : أئمة حفاظ ثقات ، من أجل التابعين . فإذا ترددت اللفظة من هذا الحديث (بين كونها عن هذا ، أو ذاك ) : لم يضر ، وجاز الاحتجاج بها ، لأنهما ثقتان . وقد اتفق العلماء على أنه ، لو قال : حدثني زيد ، أو عمرو - وهما ثقتان ، معروفان بالثقة عند المخاطب - : جاز الاحتجاج به .

                                                                                                                              (ذكروا : أن عائشة - زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم - قالت : كان رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، إذا أراد أن يخرج سفرا : أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها : خرج بها رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم معه ) .

                                                                                                                              قال النووي : هذا دليل لمالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجماهير العلماء : في العمل بالقرعة : في القسم بين الزوجات ، وفي العتق ، [ ص: 737 ] والوصايا ، والقسمة ، ونحو ذلك . وقد جاءت فيها أحاديث كثيرة (في الصحيح ) مشهورة . قال أبو عبيد : عمل بها ثلاثة من الأنبياء «عليهم السلام » : يونس ، وزكريا ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                              قال ابن المنذر : استعمالها كالإجماع قال : ولا معنى لقول من ردها .

                                                                                                                              والمشهور عن أبي حنيفة : إبطالها . وحكي عنه : إجازتها . قال ابن المنذر وغيره : القياس تركها ، لكن عملنا بها للآثار .

                                                                                                                              وفيه : القرعة بين النساء ، عند إرادة السفر ببعضهن . ولا يجوز : أخذ بعضهن بغير قرعة ، هذا مذهبنا . وبه قال أبو حنيفة ، وآخرون . وهو رواية عن مالك .

                                                                                                                              وعنه ؛ رواية : أن له السفر بمن شاء منه بلا قرعة ، لأنها قد تكون : أنفع له في طريقه ، والأخرى : أنفع له في بيته وماله ، انتهى كلام النووي .

                                                                                                                              وقد بسطت القول على مسألة القرعة ، في كتابي (الظفر اللاضي ) ورجحت العمل بها ، لورود السنة الصحيحة . وما لنا وللقياس ، وللتعليل : في مقابلة النص الثابت الصحيح ؟ ولا قول لأحد ولا رأي له : عند قول [ ص: 738 ] محمد ، صلى الله عليه وآله وسلم . ولعل من أنكرها : أنكر لعدم الاطلاع على الأحاديث الواردة في هذا الباب . ومن بلغه الحديث فيه - ثم جحدها ، أو عللها ، أو ترك القول بها- : فهو مأزور ، أي مأزور .

                                                                                                                              (قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم . وذلك بعد ما أنزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي ) بفتح الهاء : مركب من مراكب النساء (وأنزل فيه : مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، من غزوه وقفل ، ودنونا من المدينة : آذن ليلة ، بالرحيل ) روي بالمد وتخفيف الذال ، وبالقصر وتشديدها . أي : أعلم (فقمت - حين آذنوا بالرحيل - فمشيت ، حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني : أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عقدي - من جزع ظفار - قد انقطع ) .

                                                                                                                              أما «العقد » : فمعروف ، نحو القلادة .

                                                                                                                              «والجزع » بفتح الجيم وإسكان الزاي ، هو خرز يماني : في سواد وبياض ، كالعروق .

                                                                                                                              «وظفار » بفتح الظاء وكسر الراء ، هي مبنية على الكسر . تقول : هذه ظفار وإلى ظفار : بكسر الراء بلا تنوين ، في الأحوال كلها . وهي قرية في اليمن . قال التيفاشي : لا يتيمن بلبسه . ومن تقلده : كثرت همومه ، ورأى [ ص: 739 ] منامات رديئة . وإذا علق على طفل : سال لعابه . وإذا لف على شعر المطلقة : سهلت ولادتها .

                                                                                                                              (فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه . وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي ، فحملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري ) هكذا وقع في أكثر النسخ «لي » باللام - وفي بعضها : «بي » بالباء - واللام أجود .

                                                                                                                              «ويرحلون » : بفتح الياء ، وإسكان الراء ، وفتح الحاء المخففة . أي : يجعلون الرحل على البعير . وهو معنى قولها : «فرحلوه » بالتخفيف .

                                                                                                                              «والرهط » : هم جماعة دون العشرة .

                                                                                                                              (الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه . قالت : وكانت النساء - إذ ذاك - خفافا ، لم يهبلن ) ضبطوه على أوجه ؛ أشهرها : ضم الياء ، وفتح الهاء ، والباء مشددة . أي : يثقلن باللحم والشحم .

                                                                                                                              والثاني : بفتح الياء والباء ، وإسكان الهاء بينهما .

                                                                                                                              والثالث : بفتح الياء وضم الموحدة . ويجوز : بضم أوله وإسكان الهاء ، وكسر الموحدة .

                                                                                                                              قال أهل اللغة : يقال : هبله اللحم ، وأهبله : إذا أثقله ، وكثر لحمه وشحمه .

                                                                                                                              [ ص: 740 ] وفي رواية البخاري : «لم يثقلن » وهو بمعناه . وهو أيضا المراد بقولها : (ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة ) بضم العين . أي : القليل . ويقال لها أيضا : «البلغة ) (من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج ، حين رحلوه ورفعوه . وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي - بعد ما استمر الجيش - فجئت منازلهم ، وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي ) أي : قصدته (الذي كنت فيه . وظننت : أن القوم سيفقدونني ، فيرجعون إلي . فبينا أنا جالسة في منزلي : غلبتني عيني فنمت . وكان صفوان بن المعطل السلمي ) :

                                                                                                                              بفتح الطاء ، بلا خلاف . كذا ضبطه أبو هلال العسكري ، والقاضي في «المشارق » ، وآخرون .

                                                                                                                              (ثم الذكواني ) منسوب إلى «ذكوان بن ثعلبة » ، وكان صحابيا فاضلا .

                                                                                                                              (قد عرس من وراء الجيش) (التعريس » : النزول آخر الليل - في السفر - لنوم ، أو استراحة . وقال أبو زيد : هو النزول أي وقت كان .

                                                                                                                              والمشهور : الأول .

                                                                                                                              [ ص: 741 ] (فادلج ) بتشديد الدال ، وهو سير آخر الليل . . (فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان ) أي شخص (نائم ، فأتاني فعرفني - حين رآني - وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي ، فاستيقظت باسترجاعه ) أي : انتبهت من نومي ، بقوله : «إنا لله ، وإنا إليه راجعون » ، حين عرفني (فخمرت وجهي ) أي : غطيته (بجلبابي . ووالله ! ما تكلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة : غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يدها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش ، بعد ما نزلوا موغرين ) .

                                                                                                                              «الموغر » بالغين المعجمة : النازل في وقت «الوغرة » : بفتح الواو ، وإسكان الغين . وهي شدة الحر ، كما فسرها في الكتاب - في آخر الحديث - وذكر هناك أن منهم من رواه : «موعرين » بالمهملة ، وهو ضعيف .

                                                                                                                              (في نحر الظهيرة ) حين بلغت الشمس منتهاها من الارتفاع ، وكأنها وصلت إلى النحر ، وهو «أعلى الصدر » ، أو أولها ، وهو وقت القائلة ، وشدة الحر .

                                                                                                                              [ ص: 742 ] (فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره ) أي : معظمه . وهو بكسر الكاف ، على القراءة المشهورة . وقرئ - في الشواذ - بضمها ، وهي لغة .

                                                                                                                              ( عبد الله بن أبي ابن سلول ) هكذا صوابه «ابن سلول » : برفع «ابن » وكتابته بالألف : صفة لعبد الله . وقد سبق بيانه بمرات .

                                                                                                                              (فقدمنا المدينة ، فاشتكيت - حين قدمنا المدينة - شهرا ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ) أي : يخوضون فيه .

                                                                                                                              «والإفك » : بكسر الهمزة ، وإسكان الفاء ، «هذا هو المشهور » . وحكى القاضي : فتحهما جميعا . قال : هما لغتان «كنجس ونجس » . وهو الكذب . . (ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي : أني لا أعرف من رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : اللطف الذي كنت أعرف منه ، حين أشتكي ) .

                                                                                                                              «يريبني » : بفتح أوله وضمه . يقال : «رابه ، وأرابه » : إذا أوهمه وشككه .

                                                                                                                              [ ص: 743 ] «واللطف » : بضم اللام ، وإسكان الطاء . ويقال بفتحهما معا لغتان . وهو البر والرفق .

                                                                                                                              (إنما يدخل رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ؟ ) هي إشارة إلى المؤنث ، «كذاكم » في المذكر .

                                                                                                                              (فذاك يريبني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نقهت ) : بفتح القاف ، وكسرها . لغتان حكاهما الجوهري في (الصحاح ) ، وغيره . والفتح : أشهر . واقتصر عليه جماعة . يقال : نقه ينقه نقوها ، «فهو ناقه » ككلح يكلح كلوحا ، «فهو كالح » . ونقه ينقه نقها «فهو ناقه » ، كفرح يفرح فرحا «فهو فارح » . والجمع : «نقه » ، بضم النون وتشديد القاف .

                                                                                                                              «والناقه » : هو الذي أفاق من المرض ويبرأ منه وهو قريب عهد به - ، لم يتراجع إليه كمال صحته .

                                                                                                                              (وخرجت معي أم مسطح ) بكسر الميم : (قبل المناصع ) بفتح الميم . وهي مواضع خارج المدينة ، كانوا يتبرزون فيها . (وهو متبرزنا ) أي : موضع قضاء حاجتنا .

                                                                                                                              (ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل . وذلك قبل أن نتخذ الكنف ) هي جمع : «كنيف » . قال أهل اللغة : «الكنيف » الساتر مطلقا .

                                                                                                                              (قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول ، في التنزه ) .

                                                                                                                              [ ص: 744 ] ضبطوا «الأول » بوجهين ؛

                                                                                                                              أحدهما : ضم الهمزة ، وتخفيف الواو . والثاني : بفتح الهمزة وتشديد الواو . وكلاهما صحيح .

                                                                                                                              «والتنزه » : طلب النزاهة ، بالخروج إلى الصحراء .

                                                                                                                              (وكنا نتأذى بالكنف : أن نتخذها عند بيوتنا .

                                                                                                                              فانطلقت أنا وأم مسطح : وهي بنت أبي رهم ) بضم الراء وإسكان الهاء (بن المطلب بن عبد مناف . وأمها : بنت صخر بن عامر - خالة أبي بكر الصديق - وابنها : مسطح ) : هو لقب . واسمه : «عامر » . وقيل : «عوف » . كنيته : «أبو عباد » . وقيل : «أبو عبد الله » . توفي سنة «سبع وثلاثين » . وقيل : أربع وثلاثين . واسم أم مسطح : «سلمى » .

                                                                                                                              (بن أثاثة ) بهمزة مضمومة ، وثاء مكررة . (بن عباد بن المطلب . فأقبلت أنا وبنت أبي رهم : قبل بيتي ، حين فرغنا من شأننا ، فعثرت ) : بفتح الثاء (أم مسطح في مرطها ) : هو كساء من صوف ، وقد يكون من غيره . (فقالت : تعس مسطح ) .

                                                                                                                              «تعس » بفتح العين وكسرها - لغتان مشهورتان - . واقتصر الجوهري : على الفتح . والقاضي : على الكسر . ورجح بعضهم : الكسر ، وبعضهم : الفتح .

                                                                                                                              [ ص: 745 ] ومعناه : «عثر » . وقيل : «هلك » . وقيل : «لزمه الشر » . وقيل : «بعد » . وقيل : «سقط بوجهه خاصة » .

                                                                                                                              (فقلت لها : بئس ما قلت . أتسبين رجلا ، قد شهد بدرا ؟ قالت : أي هنتاه ! أولم تسمعي ما قال ؟ ) .

                                                                                                                              «هنتاه » : بإسكان النون وفتحها ، والإسكان : أشهر . قال صاحب (نهاية الغريب ) : وتضم الهاء الأخيرة ، وتسكن . ويقال - في التثنية - : «هنتان » ، وفي الجمع : «هنات ، وهنوات » . وفي المذكر : «هن ، وهنان ، وهنون » . ولك أن تلحقها الهاء لبيان الحركة ، فتقول : «يا هنه ! » ، وأن تشبع حركة النون فتصير ألفا ، فتقول : «يا هناه » . ولك ضم الهاء ، فتقول : «يا هناه ! أقبل » .

                                                                                                                              قالوا : وهذه اللفظة «تختص بالنداء » . ومعناها : «يا هذه ! » . وقيل : «يا امرأة » . وقيل : «يا بلهاء ! » كأنها نسبت إلى قلة المعرفة : بمكائد الناس وشرورهم .

                                                                                                                              ومن المذكر ؛ حديث الصبي بن معبد ؛ قلت : «يا هناه ! إني حريص على الجهاد » . والله أعلم .

                                                                                                                              (قلت : وماذا قال ؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي .

                                                                                                                              [ ص: 746 ] فلما رجعت إلى بيتي ، فدخل علي رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فسلم ثم قال : «كيف تيكم ؟ » قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ - قالت : وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما - فأذن لي رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ! ما يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية ! هوني عليك ، فوالله ! لقل ما كانت امرأة - قط - وضيئة عند رجل يحبها ، ولها ضرائر : إلا كثرن عليها ) .

                                                                                                                              «الوضيئة » مهموزة ممدودة : على زنة «عظيمة » ، هي الجميلة الحسنة . «والوضاءة » : الحسن . وكانت عائشة كذلك .

                                                                                                                              ووقع في رواية : «حظية » من الحظ وهي الوجاهة ، وارتفاع المنزلة .

                                                                                                                              «والضرائر » : جمع «ضرة » . وزوجات الرجل «ضرائر » ، لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى : بالغيرة ، والقسم ، وغيره . والاسم منه : «الضر » بكسر الضاد ، وحكي ضمها .

                                                                                                                              «وكثرن » بالثاء المشددة ، بمعنى : أكثرن القول في عيبها ، ونقصها .

                                                                                                                              (قالت : قلت : سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت - تلك الليلة - حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ) بالهمزة . أي : لا ينقطع .

                                                                                                                              [ ص: 747 ] (ولا أكتحل بنوم ) أي : لا أنام ، لأن الهموم موجبة للسهر وسيلان الدموع .

                                                                                                                              (ثم أصبحت أبكي ، ودعا رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد ، رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي - ) أي : أبطأ ولبث ، ولم ينزل . (يستشيرهما في فراق أهله . قالت : فأما أسامة بن زيد ، فأشار على رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود . فقال : يا رسول الله ! هم أهلك ) : العفائف ، اللائقات بك . وعبر بالجمع ، إشارة إلى تعميم أمهات المؤمنين : بالوصف المذكور . أو أراد : تعظيم عائشة .

                                                                                                                              (ولا نعلم إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ؛ فقال : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ) .

                                                                                                                              قال النووي : هذا الذي قاله علي رضي الله عنه ، هو الصواب في حقه ، لأنه رآه مصلحة ونصيحة للنبي ، صلى الله عليه وآله وسلم - في اعتقاده - ، ولم يكن ذلك في نفس الأمر . لأنه رأى انزعاج النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم : بهذا الأمر ، وتقلقه ، فأراد : راحة خاطره ، وكان ذلك [ ص: 748 ] أهم من غيره (وإن تسأل الجارية : تصدقك . قالت : فدعا رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم بريرة ) . إطلاق «الجارية » عليها - وإن كانت معتقة - : إطلاق مجازي ، باعتبار ما كانت عليه .

                                                                                                                              (فقال : «أي بريرة ! هل رأيت من شيء يريبك ، من عائشة ؟ » قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ! إن رأيت عليها أمرا قط ، أغمصه عليها ) بفتح الهمزة وكسر الميم : أي أعيبها (أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله ) .

                                                                                                                              «الداجن » : الشاة التي تألف البيت ، ولا تخرج للمرعى . ومعنى الكلام : أنه ليس فيها شيء مما تسألون عنه أصلا ، ولا فيها شيء من غيره : إلا نومها عن العجين .

                                                                                                                              (قالت : فقام رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، على المنبر ، فاستعذر من عبد الله بن أبي ، ابن سلول ) (أبي » منون . «وابن سلول » بالألف . وسبق بيانه .

                                                                                                                              ومعنى «استعذر » : أنه قال : «من يعذرني » .

                                                                                                                              (قالت : فقال رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم - وهو على المنبر - : يا معشر المسلمين ! من يعذرني من رجل ، قد بلغني أذاه في [ ص: 749 ] أهل بيتي ؟ ) : أي : من يعذرني فيمن آذاني في أهلي ، كما بينه في هذا الحديث .

                                                                                                                              ومعنى «من يعذرني » . من يقوم بعذري - إن كافأته على قبيح فعاله - ولا يلومني .

                                                                                                                              وقيل : معناه «من ينصرني ؟ » . والعذير : «الناصر » .

                                                                                                                              (فوالله ! ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ، ما علمت عليه إلا خيرا . وما كان يدخل على أهلي ، إلا معي . فقام سعد بن معاذ الأنصاري ) رضي الله عنه ؛ (فقال : أنا أعذرك منه ، يا رسول الله ! ) .

                                                                                                                              قال عياض : هذا مشكل لم يتكلم فيه أحد ، وكانت هذه القصة ، في غزوة مريسيع ، - وهي غزوة بني المصطلق - سنة ست ، فيما ذكره ابن إسحاق ومعلوم أن سعد بن معاذ ، مات في إثر غزاة الخندق : من الرمية التي أصابته ، وذلك سنة «أربع » بإجماع أهل السير ، إلا شيئا قاله الواقدي وحده .

                                                                                                                              قال عياض : قال بعض شيوخنا : ذكر «سعد بن معاذ » في هذا ، وهم . والأشبه : أنه غيره . ولهذا لم يذكره ابن إسحاق في السير ، وإنما قال : إن المتكلم - أولا وآخرا - «أسيد بن حضير » .

                                                                                                                              قال عياض : وقد ذكر «موسى بن عقبة » : أن غزوة المريسيع ، كانت سنة أربع ، وهي سنة الخندق . وقد ذكر البخاري اختلاف ابن إسحاق وابن عقبة .

                                                                                                                              [ ص: 750 ] قال عياض : فيحتمل أن «غزاة المريسيع » ، وحديث الإفك : كانا في سنة أربع ، قبل قصة الخندق . . قال : وقد ذكر الطبري - عن الواقدي - : أن «المريسيع » كانت سنة خمس .

                                                                                                                              قال : وكانت الخندق وقريظة بعدها . وذكر القاضي «إسماعيل » الخلاف في ذلك ، وقال : الأولى : أن يكون «المريسيع » قبل «الخندق » .

                                                                                                                              قال عياض : وهذا ، لذكر «سعد » في قصة الإفك ، وكانت في المريسيع . فعلى هذا : يستقيم فيه ذكر «سعد بن معاذ » - وهو الذي في الصحيحين - وقول غير ابن إسحاق «في غير وقت المريسيع » : أصح .

                                                                                                                              قال النووي : هذا آخر كلام القاضي ، وهو صحيح .

                                                                                                                              (إن كان من الأوس : ضربنا عنقه . وإن كان من إخواننا الخزرج : أمرتنا ، ففعلنا أمرك . قالت : فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج - وكان رجلا صالحا ، ولكن اجتهلته الحمية ) هكذا هو - هنا - لمعظم رواة صحيح مسلم : «بالجيم والهاء » . أي : استخفته ، وأغضبته ، وحملته على الجهل .

                                                                                                                              [ ص: 751 ] وفي رواية : «احتملته » بالحاء والميم . وكذا رواه مسلم بعد هذا من رواية «يونس » ، و «صالح » . وكذا رواه البخاري . ومعناه : أغضبته . فالروايتان صحيحتان .

                                                                                                                              (فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، لعمر الله ! لا تقتله ، ولا تقدر على قتله . فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله ! لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ) .

                                                                                                                              قال المازري : لم يرد نفاق الكفر ، إنما أراد : أنه يظهر الود للأوس ، ثم ظهر منه في هذه القضية ضد ذلك ، فأشبه حال المنافقين . لأن حقيقته : إظهار شيء وإخفاء غيره .

                                                                                                                              وقال «ابن أبي جمرة » : وإنما صدر ذلك منهم ، لأجل قوة حال الحمية التي غطت على قلوبهم - حين سمعوا ما قال رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يتمالك أحد منهم ، إلا قام في نصرته ، لأن الحال إذا ورد على القلب : ملكه ، فلا يرى غير ما هو لسبيله . فلما غلبهم حال الحمية : لم يراعوا الألفاظ ، فوقع منهم : السباب والتشاجر ، لشدة انزعاجهم في النصرة (فثار الحيان : الأوس والخزرج ) أي : تناهضوا للنزاع والعصبية ، كما قالت : (حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله ، صلى [ ص: 752 ] الله عليه وآله وسلم ، قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، يخفضهم حتى سكتوا ، وسكت .

                                                                                                                              قالت : وبكيت يومي ذلك ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم . ثم بكيت ليلتي المقبلة ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان : أن البكاء فالق كبدي . فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي : استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها . فجلست تبكي .

                                                                                                                              قالت : فبينا نحن على ذلك : دخل علينا رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي ، منذ قيل لي ما قيل . وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء . قالت : فتشهد رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم - حين جلس - ثم قال : أما بعد ، يا عائشة ! فإنه قد بلغني عنك : كذا وكذا ) كناية : عما رميت به من الإفك . (فإن كنت بريئة : فسيبرئك الله ) أي : بوحي ينزله . (وإن كنت ألممت بذنب : فاستغفري الله ) .

                                                                                                                              معناه : إن كنت فعلت ذنبا - وليس ذلك لك بعادة - وهذا أصل اللمم .

                                                                                                                              (وتوبي إليه ؛ فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب ) أي : منه ، إلى الله عز وجل : (تاب الله عليه ) .

                                                                                                                              فيه : تصريح لقبول التوبة ، من الله تعالى ، - إذا اعترف الإنسان [ ص: 753 ] بذنبه ، وندم على فعله ، وتاب - مع العزم على عدم الإتيان به - ولا شك في قبول مثل هذه التوبة : من الرحمن الرحيم .


                                                                                                                              ومن الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط



                                                                                                                              (قالت : فلما قضى رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم مقالته : قلص دمعي ) بفتح القاف واللام ، أي : ارتفع لاستعظام ما يعييني من الكلام ، (حتى ما أحس منه قطرة . فقلت لأبي : أجب عني رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فيما قال ) .

                                                                                                                              فيه : تفويض الكلام إلى الكبار ، لأنهم أعرف بمقاصده ، واللائق بالمواطن منه . وأبواها يعرفان حالها .

                                                                                                                              (فقال : والله ! ما أدري : ما أقول لرسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم . فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم . فقالت : والله ! ما أدري : ما أقول لرسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ) .

                                                                                                                              معناه : أن الأمر الذي سألها عنه : لا يقفان منه على زائد ، على ما عند رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم - قبل نزول الوحي - : من حسن الظن بها . والسرائر إلى الله تعالى .

                                                                                                                              (فقلت - وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ كثيرا من القرآن - : إني والله ! لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا ، حتى استقر في أنفسكم ، وصدقتم به . فإن قلت لكم : إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - : لا [ ص: 754 ] تصدقوني بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني بريئة - : لتصدقوني . وإني والله ! ما أجد لي ولكم مثلا ، إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل ) أي : أمري صبر جميل ، لا جزع فيه على هذا الأمر .

                                                                                                                              وفي مرسل «حبان بن أبي جبلة » ، قال : سئل رسول الله . صلى الله عليه وآله وسلم ، عن قوله : «فصبر جميل » ؟ فقال : «صبر لا شكوى فيه » أي : إلى الخلق .

                                                                                                                              ( والله المستعان على ما تصفون ) أي : على ما تذكرون عني ، مما يعلم الله براءتي منه .

                                                                                                                              (قالت : ثم تحولت ، واضطجعت على فراشي . قالت : وأنا والله ! حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله عز وجل مبرئي ببراءتي . ولكن والله ! ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ؛ ولشأني كان أحقر في نفسي : من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر يتلى . ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم - في النوم - رؤيا يبرئني الله بها . قالت : فوالله ! ما رام رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : [ ص: 755 ] مجلسه ) أي : ما فارقه (ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذه ما كان يأخذه : من البرحاء ) : بضم الباء ، وفتح الراء ، وبالحاء ، والمد : هي الشدة (عند الوحي ، حتى إنه ليتحدر منه ) أي : لينصب (مثل الجمان ) : بضم الجيم ، وتخفيف الميم ، وهو «الدر » . شبهت قطرات عرقه ، صلى الله عليه وآله وسلم : «بحبات اللؤلؤ » في الصفاء ، والحسن (من العرق في اليوم الشاتي ) أي : البارد (من ثقل القول الذي أنزل عليه . قالت : فلما سري ) أي : كشف وأزيل (عن رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يضحك - فكان أول كلمة تكلم بها ؛ أن قال : «أبشري ، يا عائشة ! أما الله فقد برأك » . فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : والله ! لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله ، هو الذي أنزل براءتي ) .

                                                                                                                              قال النووي : معناه ، قالت لها أمها : قومي ، فاحمديه وقبلي رأسه ، واشكريه لنعمة الله تعالى ، التي بشرك . فقالت عائشة ما قالت إدلالا عليه ، وعتبا - لكونهم شكوا في حالها ، مع علمهم بحسن طرائقها ، وجميل أحوالها ، وارتفاعها عن هذا الباطل الذي افتراه قوم ظالمون : مما لا حجة له ولا شبهة فيه .

                                                                                                                              قالت : وإنما أحمد ربي سبحانه وتعالى ، الذي أنزل براءتي ، وأنعم علي بما لم أكن أتوقعه ، كما قالت : ولشأني كان أحقر - في نفسي - من أن يتكلم الله في بأمر يتلى .

                                                                                                                              [ ص: 756 ] (قالت : فأنزل الله عز وجل : إن الذين جاءوا بالإفك ) هذا شروع في الآيات المتعلقة بالإفك ، وهي ثمانية عشر ، تنتهي بقوله : « أولئك مبرءون مما يقولون .

                                                                                                                              «والإفك » : أسوأ الكذب ، وأفحشه ، وأقبحه . وهو مأخوذ من «أفك الشيء » إذا قلبه عن وجهه . «فالإفك » : هو الحديث المقلوب ، لكونه مصروفا عن الحق . وقيل : هو البهتان .

                                                                                                                              قال في (فتح البيان ): أجمع المسلمون على أن المراد بما في الآية : ما وقع من الآفات ، على عائشة «أم المؤمنين » . وإنما وصفه الله بأنه : «إفك ، لأن المعروف من حالها : خلاف ذلك .

                                                                                                                              (عصبة منكم ) . «العصبة » : الجماعة من العشرة إلى الأربعين . والمراد بهم - هنا - : «عبد الله بن أبي رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش » ، ومن ساعدهم .

                                                                                                                              وقيل : «العصبة » : من الثلاثة إلى العشرة . وقيل : من عشرة إلى خمسة عشر .

                                                                                                                              [ ص: 757 ] وأصلها - في اللغة - : الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض .

                                                                                                                              (لا تحسبوه شرا لكم ) خوطب به النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، وعائشة ، وأبو بكر ، وصفوان بن المعطل .

                                                                                                                              وفيه تسلية لهم .

                                                                                                                              (بل هو خير لكم ) . «الخير » : ما زاد نفعه على ضره . وأما الخير الذي لا شر فيه : فهو الجنة ، والشر الذي لا خير فيه : فهو النار .

                                                                                                                              ووجه كونه خيرا لهم : أنه يحصل لهم به الثواب العظيم ، مع بيان براءة عائشة الصديقة بنت الصديق ، وصيرورة قصتها هذه شرعا عاما ، وهذا غاية الشرف والفضل .

                                                                                                                              وفيه : تهويل الوعيد لمن تكلم فيهم ، والثناء على من ظن بهم خيرا .

                                                                                                                              وتمام الآية : «لكل امرئ منهم » ، أي : من العصبة الكاذبة : «ما اكتسب من الإثم » بسبب تكلمه بالإفك .

                                                                                                                              «والذي تولى » . أي : تحمل «كبره » أي : معظمه «منهم » : فبدأ بالخوض فيه ، وأشاعه : «له عذاب عظيم » في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما .

                                                                                                                              (عشر آيات ؛ فأنزل الله عز وجل : هذه الآيات ببراءتي .

                                                                                                                              قالت : فقال أبو بكر رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه ، وفقره - : والله ! لا أنفق عليه شيئا أبدا - بعد الذي قال لعائشة [ ص: 758 ] فأنزل الله عز وجل : «ولا يأتل ) أي : لا يحلف (أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا ) أي : أن لا يؤتوا (أولي القربى » إلى قوله : «ألا تحبون أن يغفر الله لكم » ؟ ) أي : بسبب عفوكم وصفحكم عن الفاعلين : للإساءة عليكم . فإن الجزاء من جنس العمل . فكما تغفر يغفر لك ، وكما تصفح يصفح عنك .

                                                                                                                              قال حبان بن موسى : قال عبد الله بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله .

                                                                                                                              (فقال أبو بكر : والله ! إني لأحب أن يغفر الله لي . فرجع إلى مسطح : النفقة التي كان ينفق عليه . وقال : لا أنزعها منه أبدا .

                                                                                                                              قالت عائشة : وكان رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ؛ سأل زينب بنت جحش - «زوج النبي » صلى الله عليه وآله وسلم - عن أمري : ما علمت ؟ أو ما رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله ! أحمي سمعي وبصري ) أي : أصونهما من أن أقول : «سمعت » ، ولم أسمع . «وأبصرت » ، ولم أبصر .

                                                                                                                              (والله ! ما علمت إلا خيرا . قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني - من أزواج النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم - ) أي : تفاخرني ، وتضاهيني : بجمالها ومكانها عند النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم . وهي مفاعلة من «السمو » ، وهو الارتفاع .

                                                                                                                              [ ص: 759 ] (فعصمها الله بالورع ) أي : حفظها ومنعها بالمحافظة على دينها - عن أن تقول بقول أهل الإفك .

                                                                                                                              (وطفقت أختها «حمنة بنت جحش » : تحارب لها ) أي : جعلت تتعصب لها ، فتحكي ما يقوله أهل الإفك .

                                                                                                                              «وطفق » : بكسر الفاء على المشهور ، وحكي فتحها .

                                                                                                                              (فهلكت فيمن هلك .

                                                                                                                              قال الزهري : فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط ) .

                                                                                                                              قال الصلاح الصفدي : رأيت بخط « ابن خلكان » ؛ أن مسلما ناظر نصرانيا ، فقال له النصراني في خلال كلامه - محتقنا في خطابه بقبيح آثامه - : يا مسلم ! كيف كان وجه زوجة نبيكم عائشة ، في تخلفها عن الركب عند نبيكم - معتذرة بضياع عقدها - ؟ فقال له المسلم : يا نصراني ! كان وجهها ، كوجه «بنت عمران » لما أتت بعيسى تحمله ، من غير زوج . فمهما اعتقدت في دينك «من براءة مريم » ، اعتقدنا مثله في ديننا من «براءة زوج نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، فانقطع النصراني ، ولم يحر جوابا . انتهى .

                                                                                                                              قلت : ولهذه المناظرة ألفاظ ، بعضها أبلغ من بعض .

                                                                                                                              (هلك الرافضة )

                                                                                                                              وقد (هلك الرافضة ) - في هذا الموضع - بسبهم عائشة ، وإفكهم [ ص: 760 ] إياها ، كما وقع من أهل الإفك السالفة . وهذا إنكار منهم للقرآن الناطق بالحق ، المبرئ لها مما رموها به ، وجحود لصريح نصوص الكتاب . أقماهم الله تعالى . فما أصبرهم على النار !

                                                                                                                              وفي الحديث : مباحث ، وفوائد كثيرة : ذكرها الحافظ في(الفتح ) لا نطول بذكرها . ولنقتصر هنا على ما ذكره النووي : من فوائد هذا الحديث ؛ قال رحمه الله تعالى : اعلم أن في «حديث الإفك » فوائد كثيرة ؛ إحداها : جواز رواية الحديث الواحد ، عن جماعة - عن كل واحد قطعة مبهمة منه - وهذا وإن كان فعل الزهري وحده ، فقد أجمع المسلمون على قبوله منه ، والاحتجاج به .

                                                                                                                              الثانية : صحة القرعة بين النساء ، وفي العتق ، وغيره مما تقدم في أول الحديث «مع خلاف العلماء » .

                                                                                                                              الثالثة : وجوب الاقتراع بين النساء ، - عند إرادة السفر ببعضهن - .

                                                                                                                              الرابعة : أنه لا يجب قضاء مدة السفر : للنسوة المقيمات . وهذا مجمع عليه ، - إذا كان السفر طويلا - وحكم القصير حكم الطويل ، على المذهب الصحيح . وخالف فيه بعض الشافعية .

                                                                                                                              الخامسة : جواز سفر الرجل ، بزوجته .

                                                                                                                              [ ص: 761 ] السادسة : جواز غزوهن .

                                                                                                                              السابعة : جواز ركوب النساء ، في «الهوادج » .

                                                                                                                              الثامنة : جواز خدمة الرجال لهن ، في تلك الأسفار .

                                                                                                                              التاسعة : أن ارتحال العسكر يتوقف على أمر الأمير .

                                                                                                                              العاشرة : جواز خروج المرأة لحاجة الإنسان ، بغير إذن الزوج . وهذا من الأمور المستثناة .

                                                                                                                              الحادية عشر : جواز لبس النساء ، القلائد - في السفر - كالحضر .

                                                                                                                              الثانية عشر : أن من يركب المرأة - على البعير وغيره - لا يكلمها ، إذا لم يكن محرما : إلا لحاجة ، لأنهم حملوا الهودج ، ولم يكلموا من يظنونها فيه .

                                                                                                                              الثالثة عشر : فضيلة الاقتصاد في الأكل : للنساء وغيرهن ، وأن لا يكثر منه بحيث يهبله اللحم ، لأن هذا كان حالهن - في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وما كان في زمانه ، صلى الله عليه وآله وسلم : فهو الكامل الفاضل المختار .

                                                                                                                              الرابعة عشر : جواز تأخر بعض الجيش - ساعة ونحوها ، لحاجة تعرض له - عن الجيش ، إذا لم يكن ضرورة إلى الاجتماع .

                                                                                                                              [ ص: 762 ] الخامسة عشر : إعانة الملهوف ، وعون المنقطع ، وإنقاذ الضائع ، وإكرام ذوي الأقدار - كما فعل صفوان ، رضي الله عنه - في هذا كله .

                                                                                                                              السادسة عشر : حسن الأدب مع الأجنبيات لا سيما في الخلوة بهن ، عند الضرورة - في برية أو غيرها ، كما فعل صفوان : من إبراكه الجمل من(غير كلام ، ولا سؤال )، وأنه ينبغي أن يمشي قدامها ، لا بجنبها ولا وراءها .

                                                                                                                              السابعة عشر : استحباب الإيثار - بالركوب ونحوه - كما فعل صفوان .

                                                                                                                              الثامنة عشر : استحباب الاسترجاع عند المصائب :(سواء كانت في الدين أو الدنيا ، وسواء كانت في نفسه أو من يعز عليه ).

                                                                                                                              التاسعة عشر : تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي ،(سواء كان صالحا ، أو غيره ).

                                                                                                                              العشرون : جواز الحلف ، من غير استحلاف .

                                                                                                                              الحادية والعشرون : أنه يستحب أن يستر عن الإنسان «ما يقال فيه » ، إذا لم يكن في ذكره فائدة ، كما كتموا عن عائشة «رضي الله عنها » : هذا [ ص: 763 ] الأمر ، شهرا ، ولم تسمع بعد ذلك : إلا بعارض عرض ، وهو قول أم مسطح : «تعس مسطح » .

                                                                                                                              الثانية والعشرون : استحباب ملاطفة الرجل زوجته ، وحسن المعاشرة .

                                                                                                                              الثالثة والعشرون : أنه إذا عرض عارض - بأن سمع عنها شيئا ، أو نحو ذلك - يقلل من اللطف ونحوه ، لتفطن هي أن ذلك لعارض ، فتسأل عن سببه ، فتزيله .

                                                                                                                              الرابعة والعشرون : استحباب السؤال عن المريض .

                                                                                                                              الخامسة والعشرون : أنه يستحب للمرأة - إذا أرادت الخروج لحاجة - أن تكون معها رفيقة ، تستأنس بها ولا يتعرض لها أحد .

                                                                                                                              السادسة والعشرون : كراهة الإنسان صاحبه أو قريبه - إذا آذى أهل الفضل ، أو فعل غير ذلك من القبائح - كما فعلت «أم مسطح » في دعائها عليه .

                                                                                                                              السابعة والعشرون : فضيلة أهل بدر ، والذب عنهم - كما فعلت عائشة ، في ذبها عن مسطح - .

                                                                                                                              الثامنة والعشرون : أن الزوجة لا تذهب إلى بيت أبويها ، إلا بإذن زوجها .

                                                                                                                              التاسعة والعشرون : جواز التعجب بلفظ «التسبيح » ، وقد تكرر في هذا الحديث وغيره .

                                                                                                                              [ ص: 764 ] الثلاثون : استحباب مشاورة الرجل(بطانته ، وأهله ، وأصدقاءه )فيما ينوبه من الأمور .

                                                                                                                              الحادية والثلاثون : جواز البحث والسؤال(عن الأمور المسموعة ، عمن له به تعلق ). أما غيره فهو منهي عنه ، وهو تجسس وفضول .

                                                                                                                              الثانية والثلاثون : خطبة الإمام الناس (عند نزول أمر مهم ).

                                                                                                                              الثالثة والثلاثون : اشتكاء ولي الأمر إلى المسلمين : من تعرض له بأذى في نفسه ، أو أهله ، أو غيره . واعتذاره فيما يريد أن يؤذيه به .

                                                                                                                              الرابعة والثلاثون : فضائل ظاهرة : لصفوان بن المعطل ، «رضي الله عنه » : بشهادة النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم له ، بما شهد . وبفعله الجميل(في إركاب عائشة ، وحسن أدبه في جملة القضية ).

                                                                                                                              الخامسة والثلاثون : فضيلة لسعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير «رضي الله عنهما » .

                                                                                                                              السادسة والثلاثون : المبادرة إلى قطع الفتن والخصومات والمنازعات ، وتسكين الغضب .

                                                                                                                              السابعة والثلاثون : قبول التوبة والحث عليها .

                                                                                                                              الثامنة والثلاثون : تفويض الكلام إلى الكبار - دون الصغار - ، لأنهم أعرف .

                                                                                                                              التاسعة والثلاثون : جواز الاستشهاد بآيات القرآن العزيز ، ولا خلاف أنه جائز .

                                                                                                                              [ ص: 765 ] الأربعون : استحباب المبادرة : بتبشير من تجددت له نعمة ظاهرة ، أو اندفعت عنه بلية ظاهرة .

                                                                                                                              الحادية والأربعون : براءة « عائشة » من الإفك ، وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز . فلو تشكك فيها إنسان - والعياذ بالله - صار كافرا مرتدا ، بإجماع المسلمين .

                                                                                                                              قال ابن عباس وغيره : «لم تزن امرأة نبي من الأنبياء ، عليهم السلام » وهذا إكرام من الله تعالى لهم .

                                                                                                                              الثانية والأربعون : تجديد شكر الله تعالى ، عند تجدد النعم .

                                                                                                                              الثالثة والأربعون : فضائل لأبي بكر رضي الله عنه ، في قوله تعالى : « ولا يأتل أولو الفضل منكم ، الآية .

                                                                                                                              الرابعة والأربعون : استحباب صلة الأرحام - وإن كانوا مسيئين - .

                                                                                                                              الخامسة والأربعون : العفو والصفح عن المسيء .

                                                                                                                              السادسة والأربعون : استحباب الصدقة والإنفاق ، في سبيل الخيرات .

                                                                                                                              السابعة والأربعون : أنه يستحب لمن حلف على يمين - ورأى غيرها خيرا منها - : أن يأتي الذي هو خير ، ويكفر عن يمينه .

                                                                                                                              الثامنة والأربعون : فضيلة زينب أم المؤمنين ، «رضي الله عنها » .

                                                                                                                              [ ص: 766 ] التاسعة والأربعون : التثبيت في الشهادة .

                                                                                                                              الخمسون : إكرام المحبوب : بمراعاة أصحابه ، ومن خدمه ، أو أطاعه ، كما فعلت عائشة :(بمراعاة حسان ، وإكرامه ): إكراما للنبي ، صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                              الحادية والخمسون : أن « الخطبة » تبتدأ : بحمد الله تعالى ، والثناء عليه بما هو أهله .

                                                                                                                              الثانية والخمسون : أنه يستحب في الخطب أن يقول - بعد الحمد والثناء ، والصلاة على النبي ، صلى الله عليه وآله ، والشهادتين - : «أما بعد » . وقد كثرت فيه الأحاديث الصحيحة .

                                                                                                                              الثالثة والخمسون : غضب المسلمين عند انتهاك حرمة أميرهم ، واهتمامهم بدفع ذلك .

                                                                                                                              الرابعة والخمسون : جواز سب المتعصب لمبطل ، كما سب أسيد بن حضير « سعد بن عبادة » لتعصبه للمنافق . وقال : إنك منافق ، تجادل عن المنافقين . وأراد : إنك تفعل فعل المنافقين ، ولم يرد النفاق الحقيقي .

                                                                                                                              هذا آخر كلام النووي .




                                                                                                                              الخدمات العلمية