الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الكلام في الفرار من الزحف قال الله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر ، قال أبو نضرة : { لأنهم لو انحازوا يومئذ لانحازوا إلى المشركين ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم } . وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد ؛ لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال ، وإنما ظنوا أنها العير ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه . فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا انحازوا إلى المشركين غلط لما وصفنا . وقد قيل إنهم لم يكن جائزا لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن الانحياز جائزا لهم عنه ، قال الله تعالى : ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وينصرفوا عنه ويسلموه ، وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس كما قال الله تعالى : والله يعصمك من الناس وكان ذلك فرضا عليهم قلت أعداؤهم أو كثروا .

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان فئة المسلمين يومئذ ، ومن كان بمنحاز عن القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم فئتهم يومئذ ولم تكن لهم فئة غيره . قال ابن عمر : كنت في جيش فحاص الناس حيصة واحدة ، ورجعنا إلى المدينة فقلنا : نحن الفرارون ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا فئتكم . فمن كان بالبعد من النبي صلى الله عليه وسلم إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة وهو النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه فلم يكن يجوز لهم الفرار .

وقال الحسن في قوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره قال : { شددت على أهل بدر } ، وقال الله تعالى : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا وذلك لأنهم فروا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك يوم حنين فروا عن النبي صلى الله عليه وسلم فعاقبهم الله على [ ص: 227 ] ذلك في قوله تعالى : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين فهذا كان حكمهم ؛ إذ كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قل عدد العدو أو كثر ؛ إذ لم يحد الله فيه شيئا ، وقال الله تعالى في آية أخرى : يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا هذا والله أعلم في الحال التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حاضرا معهم ، فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين ولا يهربوا عنهم ، فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال .

ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله فروي عن ابن عباس أنه قال : كتب عليكم أن لا يفر واحد من عشرة ، ثم قال : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا الآية ، فكتب عليكم أن لا يفر مائة من مائتين وقال ابن عباس : إن فر رجل من رجلين فقد فر وإن فر من ثلاثة فلم يفر قال الشيخ : يعني بقوله فقد فر الفرار من الزحف المراد بالآية ، والذي في الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار ، فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة ، فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا فئة كل مسلم .

وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم رحم الله أبا عبيد لو انحاز إلي لكنت له فئة فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال : أنا فئة لكم ، ولم يعنفهم . وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال ، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم من نحو خروج من مضيق إلى فسحة أو من سعة إلى مضيق أو يكمنوا لعدوهم ونحو ذلك مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب ، أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم . فإذا بلغوا اثني عشر ألفا فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم وإن كثر عددهم ، ولم يذكر خلافا بين أصحابنا فيه ، واحتج بحديث الزهري عن [ ص: 228 ] عبيد الله بن عبد الله أن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربع مائة وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة ولن يغلب ، وفي بعضها : ما غلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم . وذكر الطحاوي أن مالكا سئل فقيل له : أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها ؟ فقال له مالك : إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف وإلا فأنت في سعة من التخلف ؛ وكان السائل له عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر . وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن . والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب وإن كثر عدد المشركين ، فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا اجتمعت كلمتهم } وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية