الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ودليلنا : ما رواه الشافعي في صدر الباب عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قضى باليمين مع الشاهد " فإن قيل : هذا الحديث منقطع ومرسل ، لأن عمرو بن دينار لم يلق ابن عباس .

                                                                                                                                            [ ص: 70 ] قيل : قد رواه مسلم بن خالد الزنجي ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، وقد رواه الشافعي عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن ربيعة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى باليمين مع الشاهد " .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا الحديث معلول ، لأن عبد العزيز بن محمد قال : لقيت سهيل بن أبي صالح فسألته عن هذا الحديث ، فقال : أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ، ولا أحفظه .

                                                                                                                                            قال عبد العزيز : وكان أصاب سهيلا علة ذهب بها بعض عقله ، فنسي بعض حديثه ، فكان سهيل إذا روى هذا الحديث قال : أخبرني ربيعة عن أبي هريرة .

                                                                                                                                            قيل : نسيان الراوي لا يمنع من قبول حديثه ، قبل نسيانه ، وليس النسيان أكثر من الموت الذي لا يرد به الحديث . وضبطه لنفسه حتى نسي الرواية فحدث بها عن ربيعة عن نفسه - دليل على صحة عقله .

                                                                                                                                            وقد رواه ابن المبارك ، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة . فكان مرويا من طريقين ثابتين . وروى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، علي بن أبي طالب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى بالشاهد الواحد مع يمين من له الحق " .

                                                                                                                                            قال جعفر بن محمد : ولقيت الحكم بن عتيبة يسأل أبي ، وقد وضع يده على جدار ، ليقوم ، أقضى النبي صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                            وقضى به علي بين أظهركم بالعراق .

                                                                                                                                            وروى جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل فأمرني أن أقضي باليمين مع الشاهد ؟ قال : نعم

                                                                                                                                            وروى مطرف بن مازن ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده :

                                                                                                                                            أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى باليمين مع الشاهد " ، وروى سعيد بن عمرو بن شرحبيل ، عن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " أنه قضى باليمين مع الشاهد الواحد في الحقوق " .

                                                                                                                                            وروى أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت أنه : قضى باليمين مع الشاهد ، فصار هذا الحديث مرويا عن ثمانية من الصحابة : علي ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وجابر بن [ ص: 71 ] عبد الله ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وسعد بن عبادة رضي الله عنهم . ولعله قد رواه غيرهم ، فكان من أشهر الأحاديث وأثبتها ، وقد قضى علي بن أبي طالب بالكوفة باليمين مع الشاهد على المنبر .

                                                                                                                                            معناه : أنه أحلف المدعي قائما على المنبر ، لا أنه حكم به وهو على المنبر .

                                                                                                                                            فاعترضوا على هذا الحديث من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : الطعن فيه والقدح في صحته بما حكوه عن يحيى بن معين : أن ليس في اليمين مع الشاهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يصح .

                                                                                                                                            وهذا القدح فاسد ، لأن مالكا ، والشافعي قد أثبتاه ، وقالا به ، وهما أعرف بصحة الحديث وأقرب إلى زمن معرفته من يحيى ، وإن كان الحكاية عنه في قدحه ضعيفة ، وقد أثبته مسلم بن الحجاج في الصحيح .

                                                                                                                                            والاعتراض الثاني : بعد تسليم صحته أن قالوا : يجوز أن يكون قضى بشهادة خزيمة بن ثابت ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادته وحده ، وسماه ذا الشهادتين ، وهذه الشهادة يخص بها خزيمة ، فلم يجز أن تعتبر في غيره . وعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن خزيمة إنما شهد وحده في قصة الأعرابي حين باع النبي صلى الله عليه وسلم فرسا ، ثم جحده إلى أن شهد خزيمة ، فاعترف الأعرابي . بعد شهادته ، فلم يختص خزيمة إلا بهذه الشهادة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان ذلك في شهادة خزيمة ، لما احتاج إلى إحلاف المدعي مع شهادته .

                                                                                                                                            والاعتراض الثالث : أن قالوا استعمال الحديث أنه قضى بيمين المدعى عليه مع شاهد المدعي ، لقصور بينته ، في نقصها عن عدد الكمال . وعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن قضاءه باليمين مع الشاهد موجب أن يكون القضاء متعلقا بهما ، وهذا على ما قالوه متعلق باليمين دون الشاهد .

                                                                                                                                            والثاني : أن في رواية علي بن أبي طالب أنه قضى بالشاهد الواحد مع يمين من له الحق إبطالا لهذا الاعتراض وإبطالا لهذا التأويل .

                                                                                                                                            ويدل عليه انعقاد الإجماع به ، فقد قضى علي بن أبي طالب بالكوفة باليمين مع الشاهد على المنبر ، ومعناه أنه أحلف المدعي قائما ، لا أنه حكم وهو على المنبر .

                                                                                                                                            [ ص: 72 ] وروى أبو الزناد عن عبد الله بن عامر قال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، وعمر ، وعثمان يقضون باليمين مع الشاهد وأخبر يحيى أنه قضى بها أبي بن كعب وزيد بن ثابت ، وقضى بها عمر بن عبد العزيز ، وكتب بها إلى خلفائه في جميع الأمصار ، ومثل هذا العمل المشهور إذا لم يعارض بالخلاف كان إجماعا منتشرا ، وحجاجا قاطعا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد قال الزهري : القضاء بالشاهد مع اليمين بدعة وأول من قضى به معاوية .

                                                                                                                                            قيل : قول الزهري مع عمل من ذكرناه مردود وقيل : قال الشافعي : إن الزهري قضى بها حين ولي ، والإثبات الموافق للجماعة أولى من النفي المخالف لهم ، ويدل عليه من طريق الاعتبار أنه أحد المتداعيين ، فجاز أن يكون في جنبته ، كالمدعى عليه ، ولأن أصول الأحكام موضوعة على أن تكون في جنبة أقوى المتداعيين ، وأقواهما مع عدم الشهادة جنبة المدعى عليه ، لأن الأصل براءة ذمته ، فإذا حصل مع المدعي شاهد صار أقوى فوجب أن تكون في جنبته .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية