الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إن ربك لسريع العقاب . إخبار يتضمن سرعة إيقاع العذاب بهم .

وإنه لغفور رحيم . ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب وأصلح

وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك . أي فرقا متباينين في أقطار الأرض ، فقل أرض لا يكون منهم فيها شرذمة ، وهذا حالهم في كل مكان تحت الصغار والذلة ، سواء كان أهل تلك الأرض مسلمين أم كفارا ، وأمما حال ، وقال الحوفي : مفعول ثان ، وتقدم قوله هذا في : قطعناهم اثنتي عشرة ، والصالحون من آمن منهم بعيسى ومحمد عليهما السلام ، أو من آمن بالمدينة ، ومنهم منحطون عن الصالحين ، وهم الكفرة ، وذلك إشارة إلى الصلاح ، أي : ومنهم دون أهل الصلاح ؛ لأنه لا يعتدل التقسيم إلا على هذا التقدير من حذف مضاف ، أو يكون ذلك المعنى به أولئك ، فكأنه قال ومنهم [ ص: 415 ] قوم دون أولئك ، وقد ذكر النحويون أن اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع ، فيكون ذلك بمعنى أولئك على هذه اللغة ويعتدل التقسيم ، والصالحون ودون ذلك ألفاظ محتملة ، فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك يراد به الكفار ، وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان كان دون ذلك في مؤمنين لم يبلغوا رتبة الصلاح الذي لأولئك ، والظاهر الاحتمال الأول لقوله : لعلهم يرجعون ، إذ ظاهر قوله : وبلوناهم أنهم القوم الذين هم دون أولئك ، وهو من ثبت على اليهودية وخرج من الإيمان ، ودون ذلك ظرف أصله للمكان ، ثم يستعمل للانحطاط في المرتبة ، وقال ابن عطية : فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك بمعنى غير يراد بها الكفرة ، انتهى ، فإن أراد أن دون ترادف غيرا فهذا ليس بصحيح ، وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شيء أن يكون غيرا فصحيح ، ودون ظرف في موضع رفع نعت لمنعوت محذوف ، ويجوز في التفصيل بمن حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه نحو هذا ، ومنه قولهم : منا ظعن ومنا أقام .

وبلوناهم بالحسنات والسيئات . أي بالصحة والرخاء والسعة ، والسيئات مقابلاتها .

لعلهم يرجعون إلى الطاعة ويتوبون عن المعصية .

فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا . أي حدث من بعد المذكورين خلف ، قال الزجاج : يقال للقرن الذي يجيء بعد القرن خلف ، وقال الفراء : الخلف القرن ، والخلف من استخلفه ، وقال ثعلب : الناس كلهم يقولون : خلف صدق للصالح وخلف سوء للطالح . ومنه قول الشاعر :


ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب

والمثل : سكت ألفا ونطق خلفا ، أي : سكت طويلا ثم تكلم بكلام فاسد ، وعن الفراء : الخلف يذهب به إلى الذم والخلف خلف صالح . وقال الشاعر :


خلفت خلفا ولم تدع خلفا     كنت بهم كان لا بك التلفا

وقد يكون في الردى خلف ، وعليه قوله :


ألا ذلـك الخلــف الأعــور

، وفي الصالح خلف ، وعلى هذا بيت حسان :


لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا     لأولنا في طاعة الله تابع

وقال ابن السكيت : يقال هذا خلف صدق وهذا خلف سوء ، ويجوز هؤلاء خلف صدق وهؤلاء خلف سوء ، واحده وجمعه سواء ، وقال الشاعر :


إنا وجدنا خلفا بئس الخلف     عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف

[ ص: 416 ] انتهى ، وقد جمع في الردى بين اللغتين في هذا البيت ، وقال النضر بن شميل : التحريك والإسكان معا في القرآن الردى ، وأما الصالح فبالتحريك لا غير ، وأكثر أهل اللغة على هذا إلا الفراء وأبا عبيدة فإنهما أجازا الإسكان في الصالح ، والخلف إما مصدر خلف ، ولذلك لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، وإن ثني وجمع وأنث ما قبله ، وأما جمع خالف كراكب وركب وشارب وشرب ، قاله ابن الأنباري ، وليس بشيء لجريانه على المفرد واسم الجمع لا يجري على المفرد ، قال ابن عباس وابن زيد : هنا هم اليهود ، قال الزمخشري : وهم الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورثوا الكتاب : التوراة ، بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرأونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحريم والتحليل ولا يعملون بها ، وقال الطبري : هم أبناء اليهود ، وعن مجاهد أنهم النصارى ، وعنه أنهم هؤلاء الأمة ، وقرأ الحسن : ورثوا ، بضم الواو وتشديد الراء ، وعلى الأقوال يتخرج الكتاب أهو التوراة أو الإنجيل والقرآن ، وعرض هذا الأدنى هو ما يأخذونه من الرشا والمكاسب الخبيثة ، والعرض ما يعرض ولا يثبت ، وفي قوله : عرض هذا الأدنى تخسيس لما يأخذونه وتحقير له ، وأنهم مع علمهم بما في كتابهم من الوعيد على المعاصي يقدمون لأجل العامة على تبديل الكتاب وتحريفه كما قال تعالى : ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا والأدنى من الدنو ، وهو القرب ؛ لأن ذلك قريب منقض زائل ، قال الزمخشري : وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها ، ويقولون سيغفر لنا ، قطع على الله بغفران معاصيهم ، أي : لا يؤاخذنا الله بذلك ، والمناسب إذ ورثوا الكتاب أن يعملوا بما فيه ، وأنه إن قضي عليهم بالمعصية أن لا يجزموا بالمغفرة وهم مصرون على ارتكابها ، ولنا في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، وقيل ضمير مصدر يأخذون ، أي : سيغفر هو أي الأخذ لنا .

وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه . الظاهر أن هذا استئناف إخبار عنهم بانهماكهم في المعاصي وإن أمكنهم الرشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية ، ودائما فهم مصرون على المعاصي غير مكترثين بالوعيد كما جاء ، والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ، والعرض بفتح الراء متاع الدنيا ، قاله أبو عبيدة ، يقال : إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر ، والعرض بسكون الراء الدراهم والدنانير التي هي رءوس الأموال وقيم المتلفات ، قال السدي : كانوا يعيرون القاضي فإذا ولى المعير ارتشى ، وقيل : كانوا لو أتاهم من الخصم الأجر رشوة أخذوها ونقضوا بالرشوة الثانية ما قضوا بالرشوة الأولى . وقال الشاعر :


إذا ما صب في القنديل زيت     تحولت القضية للمقندل

وقال آخر :


لم يفتح الناس أبوابا ولا عرفوا     أجدى وأنجح في الحاجات من طبق

إذا تعمم بالمنديل في طبق لم يخش نبوة بواب ولا غلق ولهذه الأمة من هذه الآية نصيب وافر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتسلكن سنن من قبلكم ، ومن اختبر حال علمائها وقضاتها ومفتيها شاهد بالعيان ما أخبر به الصادق ، وقال الزمخشري : الواو للحال - يعني في وإن يأتهم - أي يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل قولهم غير ناسين ، وغفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة ، والمصر لا غفران له ، انتهى ، وحمله على جعل الواو للحال لا للعطف مذهب الاعتزال ، والظاهر ما قدمناه ، ولا يرد عليه بأن جملة الشرط لا تقع حالا لأن ذلك جائز .

ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتـاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه . هذا توبيخ وتقرير لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق أنهم لا يكذبون على الله . قال ابن زيد : كان يأتيهم المحق برشوة [ ص: 417 ] فيخرجون له كتاب الله ويحكمون له به ، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له ، وأضيف الميثاق إلى الكتاب لأنه ذكر فيه أن لا يقولوا على الله إلا الحق ، وقال بعضهم : هو قولهم ( سيغفر لنا ) ولا يتعين ذلك بل هو أعم من هذا القول وغيره ، فيندرج فيه الجزم بالغفران وغيره ، وأن لا يقولوا في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب ، وقال الزمخشري : هو عطف بيان لميثاق الكتاب ، ومعناه الميثاق المذكور في الكتاب ، وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله تعالى وتقول ما ليس بحق عليه ، وإن فسر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان أن لا يقولوا مفعولا له ، ومعناه لئلا يقولوا ، ويجوز أن تكون مفسرة ولا يقولوا نهيا ، كأنه قيل : ألم يقل لكم لا تقولوا على الله إلا الحق ، وقال أيضا قبل ذلك ميثاق الكتاب يعني قوله في التوراة : من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة ، ودرسوا ما فيه أي ما في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب ، والذي عليه هوى المجبر هو مذهب اليهود بعينه كما ترى . وقال مالك بن دينار رحمه الله : يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به قالوا : سيغفر لنا لن نشرك بالله شيئا ، كل أمرهم على الطمع ، خيارهم فيه المداهنة ، فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم الله تعالى ، وتلا الآية ، انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة ، وقوله : إلا الحق دليل على أنهم كانوا يقولون الباطل على تناولهم عرض الدنيا : ودرسوا معطوف على قوله : ألم يؤخذ وفي ذلك أعظم توبيخ وتقريع ، وهو أنهم كرروا على ما في الكتاب ، وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله ، وهذا العطف على التقرير لأن معناه قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه ، كقوله : ألم نربك فينا وليدا ولبثت معناه قد ربيناك ولبثت ، وقال الطبري وغيره : هو معطوف على قوله : ورثوا الكتاب وفيه بعد ، وقيل : هو على إضمار قد ، أي وقد درسوا ما فيه ، وكونه معطوفا على التقرير هو الظاهر ، لأن فيه معنى إقامة الحجة عليهم ، في أخذ ميثاق الكتاب بكونهم حفظوا لفظه وكرروه وما نسوه وفهموا معناه ، وهم مع ذلك لا يقولون إلا الباطل ، وقرأ الجحدري : أن لا تقولوا بتاء الخطاب ، وقرأ علي والسلمي : وادارسوا ، وأصله وتدارسوا ، كقوله : فادارأتم ، أي : تدارأتم وقد مر تقريره في العربية ، وهذه القراءة توضح أن معنى : ودرسوا ما فيه هو التكرار لقراءته والوقوف عليه وأن تأويل من تأول ودرسوا ما فيه أن معناه : ومحوه بترك العمل والفهم له ، من قولهم : درست الريح الآثار إذا محتها فيه بعد ، ولو كان كما قيل ، لقيل : ربع مدروس ، وخط مدروس ، وإنما قالوا : ربع دارس ، وخط دارس بمعنى داثر .

والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون . أي ولثواب دار الآخرة خير من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة المعقبة خزي الدنيا والآخرة ، ومعنى : يتقون محارم الله تعالى ، وقرأ أبو عمرو وأهل مكة : يعقلون بالياء جريا على الغيبة في الضمائر السابقة ، وقرأ الجمهور بالخطاب على طريقة الالتفات إليهم ، أو على طريق خطاب هذه الأمة كأنه قيل : أفلا تعقلون حال هؤلاء وما هم عليه من سوء العمل ويتعجبون من تجارئهم على ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية