الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا سفيان الثوري حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب ) صحابيان جليلان ( قال : قال له رجل ) جاء في رواية أنه قيس لكن لا يعرف اسمه ( أفررتم ) أي : يوم حنين كما جاء في رواية الصحيحين ( عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : معرضين عنه ، وتاركين له وإلا فالفرار من الكفار ( يا أبا عمارة ) بضم العين ، وتخفيف الميم كنية البراء والاستفهام للإنكار أو للاستعلام ( فقال لا ) أي : ما فررنا جميعا (والله ما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن ولى سرعان الناس ) بفتح السين والراء ويسكن أي : أوائلهم ففي النهاية : السرعان بفتح السين والراء : أوائل الناس الذين يتسارعون على الشيء ، ويقبلون عليه بسرعة ، ويجوز تسكين الراء .

ومنه حديث حنين خرج سرعان الناس ، وإخاؤهم وقال العلامة الكرماني في قوله سرعان بفتح السين ، وكسرها جمع سريع ، وبفتح السين والراء ويسكن أي أوائلهم .

قال ميرك : هذا الجواب من البراء ظاهر على تقدير الكلام في السؤال هكذا أفررتم من الكفار ، وعلى رواية أفررتم كلكم يوم حنين ، وأما على هذه الرواية ، وهي أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يخلوا عن تكلف ، ويمكن أن يوجه بأن البراء أشار على أنه - صلى الله عليه وسلم - فلا يخلو عن تكلف ، ويمكن أن يوجه بأن البراء أشار إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفر ، وأظهر الشجاعة ، وقد قال الله تعالى والله يعصمك من الناس فحينئذ لا يتصور فرار الصحابة عنه لشدة موافقتهم له ، وعلمهم بأنه مؤيد بالتأييدات الإلهية ; وإنما يتوهم فرارهم عنه إذا فر هو وتولى ، وهو محال عنه - صلى الله عليه وسلم - انتهى .

وفيه أنه لا يلزم من وجود كونه معصوما من الناس عدم تصور فرار أصحابه كما لا يخفى ، وقيل هذا الجواب الذي أجابه البراء من بديع أدب الفضلاء ; لأن تقدير الكلام أفررتم كلكم فيقتضي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وافقهم في ذلك فقال البراء : لا والله ما فر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن جماعة من أصحابه جرى لهم كذا وكذا انتهى كلامه . وهو منسوب إلى محيي الدين النووي ، وهو مسلم في حديث مسلم إذ ليس فيها : " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وأما على رواية الترمذي فقول السائل : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدل إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - فر ، بل على أنهم فروا ، وبقي هو منفردا ، فالأولى أن يقال تقدير الكلام أفررتم كلكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال البراء : لا نفيا لفرار الكل كما يدل عليه الاستدراك ، وصرح بنفي توليته - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاستطراد دفعا لما قد يتوهم أنه يلزم من فرار العسكر تولية الأمير على ما هو المعتاد المتعارف ، وقيل قول البراء : " لا " . رفع الإيجاب الكلي الذي توهمه السائل ، وقوله : " ما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تعليل لذلك الرفع سواء كان القسم لتأكيد هذا النفي أو للرفع السابق يعني لما لم يفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يفر جميع أصحابه عنه ، نعم سرعان الناس جرى لهم ذلك كذا وكذا انتهى . واعتمده شيخنا ابن حجر ، وأطنب في [ ص: 46 ] توضيحه حيث قال : وقوله ( لا ) أي : لم نفر بأجمعنا بل فر بعضنا ، وبقي بعضنا وأكد بقاء البعض بقوله ما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلزم من بقائه بقاء طائفة معه لما جبلوا عليه من إيثارهم نفسه الكريمة على نفوسهم ، وهذا من بديع أدب البراء رضي الله عنه ، وبلاغته ; لأن الاستفهام ربما يتوهم منه ، وإن دفع ذلك التوهم تعبير السائل : " بعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنه فر معهم ، وزاد في التأدب نفي التولي دون الفرار نزاهة لمقامه الرفيع عن أن يستعمل فيه لفظ الفرار في النفي فضلا عن الإثبات ; لأنه أشنع من لفظ التولي إذ هو قد يكون لتحيز أو انحراف بخلاف الفرار ; فإنه لا يكون إلا للخوف ، والجبن أي : غالبا وإلا فرار الصحابة هنا لم يتمحض لذلك قطعا ، ومن ثمة قال الطبراني : هذا الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود ، وأما الاستعداد للكرة ، فهو كالتحيز إلى فئة ، ويحتمل أن البراء أشار إلى قيام الحجة الواضحة ، والبينة الظاهرة على عدم فرار أكابر الصحابة بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقع منه تول فهم كذلك لمثابرتهم على بذلهم نفوسهم دونه ، وعلمهم بأن الله تعالى لا يخذله ، وأنه يعصمه من الناس ، ولا ينافي ذلك ما في مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله : فأرجع منهزما ، إلى قوله : درت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهزما فقال : لقد رأى ابن الأكوع فزعا فقال العلماء : قوله منهزما حال من ابن الأكوع كما صرح أولا بانهزامه ، ولم يرد أنه - صلى الله عليه وسلم - انهزم إذ لم يقل أحد من الصحابة أنه - صلى الله عليه وسلم - انهزم في موطن من مواطن الحرب .

ومن ثمة أجمع المسلمون على أنه لا يجوز عليه الانهزام فمن زعم أنه انهزم في موطن من مواطن الحرب أدب تأديبا عظيما لائقا بعظيم جريمته إلا أن يقوله على جهة التنقيص ; فإنه يكفر ، فيقتل ما لم يتب على الأصح عندنا ، ومطلقا عند مالك ، وجماعة من أصحابنا ، وبالغ بعضهم فنقل فيه الإجماع بل لو أطلق ذلك قتل عندهم على ما أشار إليه بعض محققيهم انتهى .

فما وقع لبعض سلاطين ما وراء النهر ، وهو عبيد خان في بيته المشهور المنسوب إلى الملاجامي حيث جعل هجرته - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة فرارا أقبح من ذلك كله ، فالحذر الحذر من التلفظ ببيته على وجه الاستحسان ; فإنه كفر صريح عند العلماء الأعيان العارفين بالمعاني ، والبيان ثم مما رسخ بالبال ، وخطر في الحال أن تقدير الكلام لا والله ما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان وراءه ; وإنما ولى مقدمة العسكر ، كما يدل عليه قوله ، ولكن ولى سرعان الناس أي : أوائلهم المسرعين في السير أو المستعجلين في الأمر لعدم رسوخهم ، ووقوفهم بحاله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر سبب فرارهم بقوله ( تلقتهم ) تفعل من اللقي أي : قابلتهم وواجهتهم ( هوازن ) بفتح الهاء وكسر الزاي قبيلة مشهورة بشدة السهم لا يكاد تخطئ سهامهم ( بالنبل ) ، الباء للتعدية أي : برميه وهو اسم جنس يراد به السهام العربية لا واحد له من لفظه ، وقيل أنه جمع نبلة ، ويجمع على نبال بالكسر ، وأنبال ( ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته ) [ ص: 47 ] أي : الدالة على كمال شجاعته المشعرة بعدم التولية إذ لا يتصور الفرار بها أصلا لا نقلا ، ولا عقلا ، والجملة حال ، وبما ذكرنا يجمع بين ما ورد من الأحاديث من أنه لما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين ، فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته قبل الكفار بعدما صاح بهم العباس ، وكان رجلا صيتا ، وفي رواية ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عقبهم فقال : يا أنصار الله ، وأنصار رسول الله أنا عبد الله ورسوله . وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : إلى أين أيها الناس ، وكان الأصحاب مشغولين بالفرار بحيث لم ينظر أحد منهم على خلف أصلا .

وأما ما روي أنه بقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منفردا فيما بين الكفار ، فقد يقال أنه محمول على الكناية عن قلة من كان عنده من الأصحاب أو على أنه كان كذلك في أول الأمر ثم جمعوا عنده ، ويؤيد الحمل الأول قوله ( وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بلجامها ) وقد سبق أيضا أن العباس ممن صاح على الناس ، فيؤخذ منه توجيه آخر أنه إنما فر من فر لما توهم من أنه - صلى الله عليه وسلم - قتل أو ما لحق أو رجع ونحو ذلك فلما سمعوا صياح عباس يا أصحاب الشجرة أو كلامه صلى الله عليه وسلم أيها الناس إلي إلي ; فرجعوا مسرعين قائلين يا لبيك يا لبيك ، وقد صح عن عباس أنه قال : فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته قبل الكفار ، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالجمع بأنه كان آخذ اللجام على سبيل المناوبة في خدمة المقام .

ومما يؤيد ما ذكرناه من تحقيق المرام ما قاله بعض الشراح ، وتبعه ابن حجر من أن قوله ، ولكن ولى سرعان الناس فيه تصريح بأن الفرار لم يكن من جميعهم ، وإنما كان ممن في قلبه مرض من مسلمة الفتح ، ومؤلفتهم وأخلاطهم الذين لم يتمكن الإسلام في قلوبهم ، بل كان فيهم من يتربص بالمسلمين الدوائر ، وجماعة خرجوا للغنيمة ; فلما انكشفوا من العدو ، وظن من فر من الصحابة أنه لم يبق فيهم غناء فكدوا ليعرفوا الخبر ، فأطلق على فعلهم الفرار في بعض الآثار أخذا بالظاهر هذا وقد وقع عند البخاري على بغلته البيضاء ، وعند مسلم أن البغلة التي كانت تحته يوم حنين أهداها له فروة بن نغاثة ، هذا هو الصحيح وذكر أبو الحسن بن عبدوس أن البغلة التي ركبها يوم حنين هي دلدل ، وكانت شهباء أهداها له المقوقس وأما التي أهداها له فروة يقال لها فضة ، وذكر ذلك ابن سعد وذكر عكسه ، والصحيح ما في مسلم ، نقله ميرك عن الشيخ ، وقال العلماء ركوبه - صلى الله عليه وسلم - البغلة في مواطن الحرب هو النهاية في الشجاعة ، وليكون أيضا معتمدا يرجع إليه المسلمون ، وتطمئن قلوبهم به ، وبمكانه وليكون ممتازا عن غيره ، وإنما فعله هذا عمدا ، وإلا فقد كانت له أفراس معروفة ( ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ) أي : وبحول ربه يحول ، وعلى عدوه يصول مظهرا نسبه وحسبه اعتمادا على ما وعده من العصمة عن الناس ربه (

أنا النبي لا كذب

) أي : حقا وصدقا ، فلا أفر ، ولا أزول عما أقر إذ صفة النبوة يستحيل معها الكذب ، فكأنه قال : أنا النبي لا يكذب فلست بكاذب فيما [ ص: 48 ] أقول حتى أنهزم ، ولا أجول بل أنا متيقن أن ما وعدني الله من النصر حق ، وإن خذلان أعدائي صدق (

أنا ابن عبد المطلب

) انتسب بجده عبد المطلب دون أبيه عبد الله إما مراعاة للوزن والقافية ، أو لأن أباه توفي شابا في حياة عبد المطلب ، ولم يشتهر كاشتهاره عند العرب ; فإنه كان سيد قريش ، ورئيس أهل مكة ، وكان الناس يدعون النبي - صلى الله عليه وسلم - بابن عبد المطلب ، وأيضا فاشتهر عندهم أن عبد المطلب بشر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيظهر ، ويكون له شأن عظيم لما أخبره سيف بن ذي يزن .

وقيل ; لأنه رأى رؤيا تدل على ظهوره وكمال جمال نوره صلى الله عليه وسلم فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم بجميع ذلك . وبأنه لا بد من ظهوره على الأعداء لتقوى نفوس المؤلفة ، ونحوهم على رجاء الإعلاء .

وفيه دليل لجواز قول الإنسان أنا فلان بن فلان ، ومنه قول علي رضي الله عنه .


أنا الذي سمتني أمي حيدره .



أي : أسدا وقول سلمة :


أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع .



والمنهي عنه قول ذلك على وجه الافتخار كما كانت تفعله الجاهلية من الكفار ثم الرواية الصحيحة في البيت سكون الباء في المصراعين ، وشذ ما قيل من فتح الباء الأولى ، وكسر الثانية قال القاضي عياض : وقد غفل بعض الناس فقال : الرواية : أنا النبي لا كذب بفتح الباء ، وعبد المطلب بالخفض ، وكذا قوله دميت من غير مد حرصا على أن يغير الرواية ليستغني عن الاعتذار ، وإنما الرواية بإسكان الباء والمد انتهى .

واعلم أن مجمل قصة حنين ، وهو واد وراء عرفة دون الطائف قيل بينه ، وبين مكة ثلاث ليال على ما ذكره أهل الآثار ، وأحبار الأخيار أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها وأسلم عامة أهلها اجتمعت أشراف هوازن وثقيف ، وقصدوا حرب المسلمين فسار - صلى الله عليه وسلم - إليهم في اثني عشر ألفا ، عشرة من أهل المدينة ، وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء أي : عن الاسترقاق ، وخرج معه ثمانون مشركا منهم صفوان بن أمية ، وورد بسند حسن أن رجلا أطلع على جبل ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن هوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم وغنمهم اجتمعوا إلى حنين ، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " تلك غنيمة للمسلمين غدا إن شاء الله " .

وقوله عن بكرة أبيهم كناية عن كثرتهم وإردة جميعهم بطريق المبالغة ، حتى كان بكرة أبيهم أيضا معهم ، وهي ما يستقى عليها الماء ، والمراد بالظعن : النساء ، واحدتها ظعينة ثم لأجل كثرة المسلمين قال بعضهم أو رجل من الأنصار قال ابن حجر : وزعم أنه الصديق كذب من المبتدعة لعنهم الله ، قلت على تقدير صحة نقله ، فلا محذور في قوله : " لن نغلب اليوم من قلة " ، لما روي مرفوعا : " لن يغلب اثنى عشر ألفا من قلة " إذ فيه الإشارة إلى أن هذا القدر من العسكر يقدر أن يقاوم ألوفا كثيرة ، وأما حقيقة الغلبة ، فهي من عند الله لا من كثرة ، ولا من قلة ، ولكن لما كان فيه نوع عجب ، وتوهم غرور مما قد يفضي إلى عدم التضرع ، والابتهال إلى الملك المتعال أخبر الله سبحانه ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم الآية ، وشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - فركب بغلته البيضاء ولبس [ ص: 49 ] درعين والمغفر والبيضة ، فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد ، والكثرة ، وذلك في غبش الصبح ، وخرجت الكتائب من مضيق الوادي حملة واحدة فانكشفت خيل بني سليم مولية ، وتبعهم أهل مكة والناس .

وقيل ولم يثبت معه يومئذ إلا عمه العباس ، وأبو سفيان ابن عمه الحارث ، وأبو بكر الصديق ، وأبو أمامة الباهلي ، وأناس من أهل بيته وأصحابه ، قال العباس : وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو لأنه كان يتقدم في نحرهم وأبو سفيان آخذ بركابه وجعل - صلى الله عليه وسلم - يأمر العباس بمناداة الأنصار ، وأصحاب الشجرة أي : شجرة بيعة الرضوان فناداهم ، وكان صيتا يسمع صوته نحو ثمانية أميال فلما سمعوه أقبلوا كأنهم الإبل حنت على أولادها يقولون : يا لبيك يا لبيك ، فتراجعوا حتى أن من لم يطاوعه بعيره نزل عنه ورجع ماشيا فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - أن يصدقوا الحملة فاقتتلوا مع الكفار ، ولما نظر - صلى الله عليه وسلم - إلى قتالهم قال : الآن حمي الوطيس أي : تنور الخبز ضربه مثلا لشدة الحرب التي يشبه حرها حره ، ولم يسمع من أحد قبله وتناول - صلى الله عليه وسلم - حصيات من الأرض ثم قال : شاهت الوجوه أي : قبحت ثم رمى فامتلأت عينا كل من المشركين منها ، وفي رواية عند أحمد ، وأبي داود ، والدارمي أن المسلمين لما ولوا نزل - صلى الله عليه وسلم - عن فرسه وضرب وجوههم بكف من تراب فحدث أبناؤهم عنهم أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا ، وسمعنا صلصلة من السماء كإمرار الحديد على الطشت الجديد بالجيم . .

ولأحمد والحاكم عن ابن مسعود أن سرج بغلته - صلى الله عليه وسلم - مال ، فقلت ارتفع رفعك الله تعالى فقال : ناولني كفا من تراب ، فضرب وجوههم ، وامتلأت أعينهم ترابا ، وجاء المهاجرون ، والأنصار بسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب فولى المشركون الأدبار .

وفي رواية عن رجل كان منهم أي : من الكفار لما لقيناهم أي : المسلمين لم يقفوا لنا حلب شاة فجعلنا نسوقهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ; فإذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلقانا عدة رجال بيض الوجوه حسان فقالوا : لنا شاهت الوجوه ارجعوا قال : فانهزمنا وركبوا أكتافنا .

وفي سيرة الدمياطي كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمراء أرخوها بين أكتافهم ، وأمر - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل من قدر عليه فأفضوا فيه إلى الذرية فنهاهم عنه ، وقال : " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه " ، واستلب أبو طلحة ذلك اليوم عشرين رجلا ، وكان في إمساكه تعالى لقلوب هوازن عن الدخول في الإسلام بعد الفتح المجعول علامة على دخول الناس في دين الله أفواجا إتمام لإعزاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومزيد لنصرته بقهر هذه الشوكة العظيمة التي لم يلقوا قبلها مثلها ، وأذيقوا أولا مرارة الهزيمة مع كثرتهم لتتواضع رءوس رفعت بالفتح ولم يدخل بلده وحرمه على هيئة تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وليتبين لمن قال : لن نغلب اليوم من قلة ، أن النصر إنما هو من عند الله ، وأنه المتولي لنصر دينه ورسوله دون كثرتهم التي أعجبتهم بأنها [ ص: 50 ] لم تغن عنهم شيئا فلما انكسرت قلوبهم جبرها الله بأن أنزل سكينته على رسوله وعليهم ، وأنزل جنودا لم تروها ، ولم تقاتل الملائكة معه إلا هنا وفي بدر ، واختصتا أيضا برميه - صلى الله عليه وسلم - وجوه المشركين بالحصباء ، ولعل تخصيصهما لأن القصة الأولى كانت في أول أمر الدين ، وقلة المسلمين كما قال تعالى واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض الآية .

والقصة الثانية في آخر الأمر بعد كثرتهم وإعزازهم للإشارة إلى أن العبد لا يستغني عن معاونة الرب في كل حال ، ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - بطلب العدو ، فانتهى بعضهم إلى الطائف ، وبعضهم نحو نخلة ، وقوم منهم فروا إلى أوطاس ، واستشهد من المسلمين أربعة ، وقتل من المشركين أكثر من سبعين والله الموفق والمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية