الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا محمد بن إسماعيل ) أي : البخاري صاحب الصحيح ( حدثنا آدم بن أبي إياس ) بكسر الهمزة ( حدثنا سفيان أبو معاوية حدثنا عبد الملك بن عمير ) بالتصغير ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ساعة لا يخرج فيها ) أي : في وقت لم يكن من عادته أن يخرج فيه ، فالجملة صفة ساعة ، وكذا قوله ( ولا يلقاه فيها أحد ) أي : بالدخول عليه في حجرته وملاقاته باعتبار عادته ( فأتاه أبو بكر ) أي : فلقيه أبو بكر بعد خروجه ( فقال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ما جاء بك ) الباء للتعدية أي : أي شيء أحضرك في هذا الوقت ( يا أبا بكر ) وفيه إيماء [ ص: 236 ] بأن عادة الصديق أيضا كانت على وفق عادة النبي حيث لم يكن يخرج إلا حين يخرج ( فقال خرجت ألقى ) أي : لعلي ألقى ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال ابن حجر : أي : أريد ذلك والجملة حال . ( وأنظر في وجهه والتسليم عليه ) بالنصب ، وفي نسخة بالجر ، قال ميرك : بالنصب على أنه مفعول فعل مقدر معطوف على الفعلين السابقين ، أي : ألقى وأنظر وأريد التسليم عليه ، وبالجر أي : وأتشرف بالتسليم عليه أو هو عطف بحسب المعنى علي ألقى أي : للقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسليم عليه انتهى ، والأظهر أن النصب بـ " أسلم " أو على ما قبله بحسب المعنى أي : أريد اللقاء والنظر والتسليم عليه ، وفيه إثبات نيات متعددة في فعل واحد يتعدد بقدرها الثواب ويرتفع بمقدارها الحجاب ( فلم يلبث ) بفتح الموحدة ( أن جاء عمر ) بفتح الهمزة وسكون النون أي : لم يمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - زمنا يسيرا إلا وعمر قد جاء إليهما ، وجعل ضمير يلبث لعمر أي : مجيئه بعيد ويؤيد عود الضمير له - صلى الله عليه وسلم - أو لأبي بكر قوله الآتي : فلم يلبثوا كذا أفاده ابن حجر ، وهو ظاهر لأمرية فيه لكن الأظهر هنا أن المصدر المستفاد من أن المصدرية هو الفاعل ليلبث ، أي : فلم يلبث مجيء عمر بل جاء عمر سريعا بعد أبي بكر على قدر مكانهما في زمانهما ، وأما جعل ضمير " يلبث " لمجيء عمر فخطأ فاحش إذ يصير التقدير فلم يلبث مجيء عمر أن جاء عمر ، فالصواب ما قدمناه ( فقال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ما جاء بك يا عمر قال الجوع يا رسول الله ) أي : جاء بي الجوع أو الجوع جاء بي ، وهو لا ينافي ما أراده الصديق من اللقي والنظر والتسليم فكأنه اقتصر عليه ؛ لأنه الباعث الأصلي أنه غير وقت عادة خروجه أيضا ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا قد وجدت بعض ذلك ) أي : الجوع ، وفي نسخة : ذلك بغير لام ، وفيه إيماء إلى تجاذب القلوب بتوفيق علام الغيوب ، وتوافق الحال بعون الملك المتعال ، ثم في رواية مسلم عن أبي هريرة أيضا : فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال : ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ؟ قالا : الجوع يا رسول الله . قال : وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما . فقيل هما قضيتان أو لما جاء عمر وذكر الجوع ذكره أبو بكر أيضا ، وبعض الزيادات في بعض الروايات محذوفة من بعض الرواة ، وروي عن جابر أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم جائعا فلم يجد في أهله شيئا يأكله وأصبح أبو بكر جائعا فقال لأهله : عندكم شيء ؟ قالوا : لا . فقال : آتي النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي أجد عنده شيئا آكله ، فأتاه فسلم ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أبا بكر أصبحت جائعا فلم تجد شيئا تأكله ؟ قال نعم قال اقعد وأصبح عمر . . . الحديث ، وروي عن أبي هريرة قال : رئي النبي - صلى الله عليه وسلم - في موضع فقال له أبو بكر : يا رسول الله ما أخرجك ؟ فقال الجوع ، قال وأنا والذي بعثك بالحق أخرجني الجوع ، قال : ثم جاء عمر . . . الحديث .

ثم اعلم أنه كان ذلك منهم في بعض الحالات لكمال الإيثار ، ففقرهم إنما هو على وجه الاختيار لا على طريق الاضطرار ومما يدل على ذلك [ ص: 237 ] قوله - صلى الله عليه وسلم - عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا رب أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك . رواه المصنف ، ولعل اختيار ذلك ليكون مقامه في درجة الكمال وحاله بين تربيتي صفتي الجلال والجمال ، وروى الطبراني بإسناد حسن كان - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وجبريل على الصفا فقال - صلى الله عليه وسلم - يا جبريل والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة من دقيق ، ولا كف من سويق فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفزعته فقال - صلى الله عليه وسلم - أمر الله القيامة أن تقوم ؟ قال لا ولكن إسرافيل نزل إليك حين سمع كلامك ، فأتاه إسرافيل فقال : إن الله سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض وأمرني أن أعرض عليك أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فإن شئت نبيا ملكا ، وإن شئت نبيا عبدا ، فأومأ إليه جبريل أن تواضع ، فقال نبيا عبدا ثلاثا فهذا نص على أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر ، لكن قال الحليمي كما في شعب الإيمان من تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يوصف بما هو عند الناس من أوصاف الضعة ، فلا يقال : كان فقيرا : ونقل السبكي عن الشفاء وأقره أن فقهاء الأندلس أفتوا بقتل من استخف بحقه - صلى الله عليه وسلم - فسماه أثناء مناظرته باليتيم ، وزعم أن زهده لم يكن قصدا ، ولو قدر على الطيبات لأكلها ، وأما خبر الفقر فخري وبه افتخر فباطل لا أصل له على ما صرح به الحفاظ ، وفي الحديث دلالة على أن ذكر الألم ونحوه من حكاية الجوع وقلة المأكول لا ينافي الزهد والتوكل ، بخلاف ما إذا كان شكوى أو جزعا ، والله سبحانه أعلم ، وقد زعم بعض الناس أن هذا كان قبل فتح الفتوح ، وهذا زعم باطل ، فإن راوي الحديث أبو هريرة ، ومعلوم أنه أسلم بعد فتح خيبر ، فإن قيل لا يلزم من كونه راويا أن يكون أدرك القضية ، فلعله سمعها ، قلنا هذا خلاف الظاهر ، ولا ضرورة داعية إليه ، نعم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقلب في اليسار تارة ، وفي العسار أخرى كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير وتوفي ودرعه مرهونة في دين استدانه لأهله فكان إذا أيسر ينفد ما عنده لإخراجه في طاعة الله من وجوه البر وكذا كان خلق صاحبيه ، بل أكثر أصحابه ( فانطلقوا ) أي : ذهبوا وتوجهوا ( إلى منزل أبي الهيثم ) واسمه مالك ( ابن التيهان ) بتشديد التحتية المكسورة ، وهو لقب واسمه عامر بن الحارث ، وقيل عتيك بن عمرو ( الأنصاري ) قيل هو قضاعي ، وإنما هو حليف الأنصار فنسب إليهم ، وفي رواية عند الطبراني وابن حبان في صحيحه أبي أيوب الأنصاري ، فالقضية متعددة ، وفي رواية مسلم : رجلا من الأنصار ، وهي محتملة لهما ، وعلى كل ففيه منقبة عظيمة لكل منهما إذ أهله - صلى الله عليه وسلم - لذلك وجعله ممن قال الله تعالى أو صديقكم ( وكان ) أي : أبو الهيثم ( رجلا كثير النخل ) واحده نخلة وزيد في بعض النسخ والشجر فهو من قبيل عطف العام على الخاص ( والشاء ) بالهمز جمع شاة بالتاء ففي النهاية أصل الشاة [ ص: 238 ] شاهة حذف لامها وجمعها شياه وشاء وتصغيرها شويهة ، ( ولم يكن له خدم ) بفتحتين ، جمع خادم ، ويقع على الذكر والأنثى على ما في النهاية ، وليس المراد به نفي الجمع بل الإفراد إذ لم يكن له خادم ، وهذا توطئة لقوله ( فلم يجدوه ) أي : في مكانه لاحتياجه إلى خروجه بسبب خدمة عياله ، ( فقالوا لامرأته : أين صاحبك ؟ ) وهو أحسن عبارة من زوجك ( فقالت : انطلق ) أي : ذهب ( يستعذب ) أي : لنا كما في نسخة صحيحة ( الماء ) وفيه تجريد أو تأكيد ؛ لأن الاستعذاب طلب الماء العذب ، ويقال : استعذب لفلان إذا استسقاه له ، والاستسقاء نزح الماء من البئر ، وقال ميرك : العذب الماء الطيب الذي لا ملوحة فيه ، وقد عذب عذوبة واستعذب القوم ماءهم إذا استسقوه عذبا واستعذبه أي : أعده عذبا ، فالمعنى يجيء لنا بالماء العذب ونقل عن الشافعي أن شرب الماء الحلو البارد يخلص الحمد لله ، ففيه إشارة إلى أن طلب الماء الحلو لا ينافي الزهد في الدنيا ، وليس من باب التنعم المنقص لمقام العقبى ، وزاد مسلم : فلما رأته المرأة قالت : مرحبا وأهلا ( فلم يلبثوا أن جاء ) أي : إلى أن جاء أو لأن جاء ( أبو الهيثم ) والمعنى أنه لم يكن لهم انتظار كثير ، بل وقع لهم مكث يسير لقرب مجيئه من مجيئهم إلى منزله فجاء ( بقربة ) أي : أتى بها ، والباء للتعدية ( يزعبها ) بفتح العين المهملة من زعب القربة إذا ملأها ، وقيل حملها ممتلئة ، وفي نسخة بضم الياء وكسر العين ، أي : يتدافع بها ويحتملها لثقلها ، وقيل يزعب بحمله إذا استقام ، كذا في النهاية ، وقال صاحب الصحاح : الزعب الدفع وزعبته عني دفعته ، وأزعبت الشيء إذا حملته ، وجاءنا سيل يزعب زعبا أي : يتدافع في الوادي ( فوضعها ) أي : القربة ( ثم جاء يلتزم النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : يعتنقه ( ويفديه بأبيه وأمه ) بتشديد الدال ، وفي نسخة بفتح فسكون فكسر دال مخففة ففي القاموس فداه تفدية إذا قال له جعلت فداك ، فالمعنى يقول : له فداك أبي وأمي ، قال الحنفي : والرواية هنا بتشديد الدال ، ولو قرئ يفديه مخففا على وزن يرميه لكان صحيحا ، وقال ابن حجر : وفي نسخة يفديه كيرميه ، وفي أخرى يفديه من الإفداء ، وكلاهما بعيد ، قلت الظاهر أن كلا منهما غير صحيح لفساد المعنى إذ المعنى فداه بالتخفيف أعطى شيئا فأنفده كفاداه على ما ذكره في القاموس ، ومنه قوله تعالى وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وتفدوهم بالقراءتين ، ويقال : أفدى الأسير إذا قبل منه فديته على ما صرح به في القاموس ، فلا شك في فساد المعنيين في هذا المقام ، فيحكم على النسختين بأنهما تصحيف وتحريف ، لكن نقل ميرك عن الصحاح فداه بنفسه وفداه تفدية إذا قال له : جعلت فداك ، وهو كذا في النهاية ، فالتخفيف من المجرد له وجه ، لكنه غير ظاهر للاشتراك المعنوي بخلاف التخفيف من المزيد ، فإنه مخالف للمعنى اللغوي ، وهذا في صحيح مسلم أن أبا الهيثم حين جاء قال : الحمد لله ، ما أجد اليوم أكرم ضيفا مني ( ثم انطلق بهم إلى حديقته ) أي : [ ص: 239 ] ذهب معهم ، فالباء للمصاحبة ، ولا معنى لترديد ابن حجر أنها للتعدية أو المصاحبة لعدم ملايمته لمقام أكرم الكرام ، والحديقة هي الروضة ذات الشجر ، ويقال : هي كل بستان له حائط ( فبسط لهم بساطا ) بكسر أوله ، أي : فرش لهم فراشا ( ثم انطلق إلى نخلة ) أي : من نخيله ( فجاء بقنو ) بكسر قاف وسكون نون ، أي : بغدق كما في مسلم ، وهو الغصن من النخل فيه بسر وتمر ورطب ، وقيل القنو من التمر بمنزلة العنقود من العنب ( فوضعه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أفلا تنقيت ) من التنقي ، وهو التخيير وإفراد الجيد من الرديء ، وهو معطوف على مقدر ، أي : أسرعت ، أفلا تنقيت لنا ( من رطبه ) أي : وتركت ما فيه من البسر حتى يرطب فينتفع به ( فقال يا رسول الله إني أردت أن تختاروا ) أي : أنتم بأنفسكم ( أو تخيروا ) بحذف إحدى التاءين أي : تتخيروا وأو شك من الراوي فإن الاختيار والتخيير بمعنى التنقية ، وفي نسخة : أو أن تخيروا بإعادة أن ، وفي نسخة أن تخيروا أو تختاروا بتقديم وتأخير ، وأما من قال " أو " للتنويع وفرق بينهما فتكلف تكلفا صار تعسفا ، ثم من في قوله ( من رطبه وبسره ) للابتداء والغاية ، ويجوز أن يكون للتبعيض بناء على أنه تارة من رطبه وأخرى من بسره بحسب اشتهاء الطبع أو باختلاف الأمزجة في الميل إليهما جميعا ، أو إلى أحدهما وأما ترجيح التبعيض بأنه قصد إبقاء بعضه عنده ليتبرك به فلا يخلو عن بعد ، والله أعلم ، وفيه ندب إحضار ما حضر لقوله تعالى فما لبث أن جاء بعجل حنيذ واستحباب تقديم الفاكهة ؛ لأنها أسرع هضما من غيرها كما يؤخذ من قوله تعالى وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون ( فأكلوا ) أي : من ذلك الغدق ( وشربوا من ذلك الماء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا ) أي : المقدم لنا ( والذي نفسي بيده ) أي : بقدرته ، وفي بعض النسخ في يده ، ولأجل تأكيد الحكم وسط القسم بين المبتدأ وخبره ، وهو قوله ( من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ) إشارة إلى قوله تعالى ثم لتسألن يومئذ عن النعيم أي : الذي يتنعم به ، والمراد : بالسؤال عن القيام بشكره على ما قاله القاضي عياض ، وقال النووي الذي نعتقده أن السؤال هنا سؤال تعداد [ ص: 240 ] النعم ، وإعلامه بالامتنان ، وإظهار كرمه بإسباغها ، لا سؤال توبيخ ومحاسبة ، وفي رواية مسلم : فلما شبعوا ورووا قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم ، وفيه جواز الشبع ، وما ورد في ذمه محمول على شبع مضر ، أو على المداومة ؛ لأنه يقسي القلب ويكسل البدن وينسي الإخوان المحتاجين ( ظل بارد ) خبر بعد خبر للمبتدأ المذكور ، أو لمبتدأ مقدر ، والجملة قامت مقام التعليل للجملة السابقة ، وكذا قوله ( ورطب طيب ) تذكير الوصف يدل على أن الرطب ليس بجمع بل هو اسم جنس يطلق على الكثير والقليل ، ولعل ترك ذكر البسر من باب الاكتفاء ، أو لتغليب الرطب عليه ، أو لقلة استعمال البسر ، ( وماء بارد ) أي : وحلو ، وأما قول ابن حجر أن قوله ظل بارد إلى آخره بدل من هذا لئلا يتوهم أن المشار إليه واحد ، وكان عدم ذكر البسر لكونهم لم يختاروا منه شيئا فلا يخلو عن بعد من الجهتين ( فانطلق ) أي : فأراد الانطلاق ( أبو الهيثم ليصنع لهم طعاما ) أي : مطبوخا مصنوعا على ما هو معروف في العرف العام ، وإن كان قد يطلق الطعام على الفاكهة لغة على ما في القاموس : الطعام البر وما يؤكل ، واستدل الشافعي بهذا الحديث على أن نحو الرطب فاكهة لا طعام ، واعترض عليه بأنه ليس طعاما مصنوعا لا مطلقا كما يشير إليه قوله ( ليصنع ) على أنه قد يقال : التقدير طعاما آخر فتدبر ، وأجاب ابن حجر عنه بما لا يجدي نفعا ، هذا مع أنه قال أبو حنيفة : إن الرطب والرمان ليسا بفاكهة ، بل الرطب غذاء والرمان دواء ، وإنما الفاكهة ما يتفكه به تلذذا كما يدل عليه قوله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان بناء على أن الأصل في العطف المغايرة ، وإن احتمل كونه من قبيل عطف الخاص على العام ، والله أعلم بحقيقة المرام ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تذبحن لنا ) قال ميرك : لعله - صلى الله عليه وسلم - فهم من قرائن الأحوال أنه يريد أن يذبح لهم شاة فقال له ذلك ، وفي رواية مسلم فأخذ المدية ، فقال - صلى الله عليه وسلم - لا تذبحن لنا ( ذات در ) بفتح دال وتشديد راء ، أي : لبن ولو في المستقبل بأن تكون حاملا ، لكن في رواية مسلم إياك والحلوب ، وإنما نهاه عن ذبحها شفقة على أهلها بانتفاعهم باللبن مع حصول المقصود بغيرها ومن ثمة لو لم يكن عنده إلا هي لم يتوجه هذا النهي إليه على أن الظاهر أنه نهي إرشاد وملاطفة ، فلا كراهة في المخالفة ؛ لأنه زيادة في إكرام الضيف ، وإن أسقط حقه بصدور نحو ذلك النهي منه ، ثم ليس هذا من التكلف المكروه للسلف احتاج إلى تكلف السلف ، أو إذا شق ذلك على المضيف وكلاهما مفقودان هنا مع أنه - صلى الله عليه وسلم - بالغ في إكرام الضيف حيث قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، لا سيما وهؤلاء الأضياف الذين ليس لهم نظير في العالم مع ندور حصول هذا المغتنم ، والله أعلم ( فذبح لهم عناقا ) بفتح أوله ، وهو الأنثى [ ص: 241 ] من ولد المعز لها أربعة أشهر ( أو جديا ) شك من الراوي ، وهو بفتح فسكون الذكر من أولاد المعز ما لم يبلغ سنة ( فأتاهم بها فأكلوا ) منها أي : بعضها ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لك خادم ) أي : غائب ؛ لأن الحامل على سؤاله رؤيته له ، وهو يتعاطى خدمة بيته بنفسه ( قال : لا ، قال : فإذا أتانا سبي ) بفتح فسكون أي : مسبي من الأسارى عبدا أو جارية ( فأتنا ) فاحضرنا ، وفيه إيماء إلى كمال كرمه وجوده حيث عزم على إحسانه ومكافأته بوعده ( فأتي ) بصيغة المجهول ، أي : فجيء ( النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسين ) أي : بأسيرين اثنين ( ليس معهما ثالث ) تأكيد لما قبله ( فأتاه أبو الهيثم ) أي اتفاقا ، أو بالقصد بمقتضى الوعد ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اختر منهما ) أي : واحدا ( فقال يا نبي الله اختر لي ) أي : أنت فإن اختيارك لي خير من اختياري لنفسي ، وهذا من كمال عقله وحسن أدبه وفضله ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - المستشار مؤتمن ) بصيغة المفعول ، وهو حديث صحيح كاد أن يكون متواترا ، ففي الجامع الصغير : المستشار مؤتمن ، رواه الأربعة عن أبي هريرة ، والترمذي عن أم سلمة وابن ماجه عن ابن مسعود والطبراني في الكبير عن سمرة ، وزاد إن شاء أشار ، وإن شاء لم يشر ، وفي الأوسط عن علي - كرم الله وجهه - وزاد فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه ، ثم الاستشارة استخراج الرأي من قولهم شرت العسل إذا أخرجتها من خلاياها ، والاسم المشورة والمشورة ، وهما لغتان ومعنى الحديث أن من استشار ذا رأي في أمر اشتبه عليه وجه صلاحه فقد ائتمنه واستشفى برأيه ، فعليه أن يشير عليه بما يراه النصح فيه ، ولو أشار عليه بغيره فقد خانه ، والحاصل أن المستشار أمين فيما يسأل من الأمور ، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته وامتناع نصيحته ( خذ هذا ) إشارة إلى أحد الرأسين ( فإني رأيته يصلي ) أي : والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهو تعليل لأمره ودليل على اختياره ( واستوص به معروفا ) أمر مخاطب عطفا على خذ مأخوذ من استوصى بمعنى أوصى إذا أمر أحدا بشيء ويعدى بالباء ، أي : مره بالمعروف وعظه معروفا كذا ذكره ميرك ، والأظهر أنه من استوصى إذا قبل وصيته أحد ، أي : قبل وصيتي في شأنه بالمعروف ، وقيل أي اطلب الوصية والنصيحة له عن نفسك بالمعروف ، فإن السين للطلب مبالغة واختاره البيضاوي ، وقال كما في قوله تعالىوكانوا من قبل يستفتحون .

الكشاف السين للمبالغة ، أي : يسألون أنفسهم الفتح عليهم كالسين في استعجب ، أقول الأظهر في الآية أن معنى يستفتحون يستنصرون ، أي : يطلبون الفتح والنصرة من الله على أعدائهم فإن مشركي العرب كانوا أعداء لأهل الكتاب كما ذكره صاحب المعالم ، وقال الطيبي هو من باب التجريد ; أي : تجرد به عن نفسك شخصا واطلب منه المعروف والخير به ، ثم انتصاب معروفا على نزع الخافض أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : استيصاء معروفا ، وفي نسخة واستوصى بصيغة الماضي ، أي استوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالعبد معروفا ( فانطلق أبو الهيثم ) أي : فذهب به ( إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت امرأته ) [ ص: 242 ] ما أنت ) أي : لو صنعت ما صنعت من المعروف به ، ما أنت ( ببالغ ) أي : بواصل ( ما قال فيه ) أي : في حقه ( النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : من المعروف ( إلا أن تعتقه ) من العتاق ، والخطاب لأبي الهيثم ( قال فهو ) أي : فإذا هو ( عتيق ) أي : معتوق ، وقال ابن حجر : أي : فبسبب ما قلته الذي هو الحق هو عتيق فرعه على قولها إعلاما بأن لها تسببا عظيما في عتقه ، وقد صح في الحديث أن الدال على الخير كفاعله ، ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : بعد ما أخبر بالقضية ، وإبهام المخبر أولى مما صرح به ابن حجر من تعيين أبي الهيثم ، والله أعلم ( إن الله لم يبعث نبيا ، ولا خليفة ) أي : من الخلفاء أو العلماء أو الأمراء ( إلا وله بطانتان ) بكسر أوله ، تثنية بطانة ، وهي المحب الخالص للرجل ، مستعار من بطانة الثوب ، وهي خلاف الظهارة ، ومنه قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم وبطانة الرجل وليجته ، وهي داخلة أمره وصاحب سره الذي يشاوره في أحواله ، على ما في النهاية ، وقال البيضاوي هو الذي يعرفه الرجل أسراره ثقة به ، شبه ببطانة الثوب كما شبه بالشعار في قوله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار شعار والناس دثار ، وفي الصحاح يقال : بطنت الرجل إذا جعلته من خواصك ( بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، وبطانة لا تألوه ) أي : لا تمنعه ( خبالا ) أي : فسادا أي : من فساد يفعله ، أو لا تقصر في حقه عن إدخال الخبال عليه ، قال تعالىلا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا الكشاف : يقال : ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم لا آلوك نصحا ، ولا آلوك جهدا ، على التضمين ، أي : تضمين معنى المنع أو النقص ، والمعنى لم أمنعك نصحا ، ولا أنقصك جهدا ( ومن يوق ) بصيغة المجهول من وقى يقي أي : من يحفظ ( بطانة السوء ) بفتح السين ، ويجوز ضمه ففيه لغتان كما في الكره والضعف إلا أن المفتوحة غلبت مع أنه يضاف إليها ما يراد ذمه من كل شيء ، وأما السوء فجار مجرى الشر الذي هو نقيض الخير ، كذا ذكره بعضهم في تفسير قوله تعالى عليهم دائرة السوء وقرئ بهما في السبع ( فقد وقي ) ماض مجهول أي : حفظ من الفساد أو جميع الأسواء والمكاره في المبدأ والمعاد ، وجاء في رواية : والمعصوم من عصمه الله ، فهو نظير قوله - صلى الله عليه وسلم - ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ، قالوا : وإياك يا رسول الله ، قال : وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير .

التالي السابق


الخدمات العلمية