الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
عبد بين رجلين كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه فللشريك أن يرد المكاتبة ، وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى ليس له ذلك بمنزلة ما لو أعتق أحدهما نصيبه أو بمنزلة ما لو باع أحدهما نصيبه ; لأن تصرف المكاتب لاقى خالص ملكه ولكنا نقول هذا عقد محتمل للفسخ ، وفي إبقائه ضرر على الشريك الآخر ، أما في الحال فلأنه يتعذر عليه بيع نصيبه ، وأما بعد الأداء فلأنه يتعذر عليه استدامة الملك في نصيبه فلدفع الضرر عن نفسه يتمكن من فسخ عقد شريكه وإذا جاز فسخ الكتابة لدفع الضرر عن المتعاقدين فلأن يجوز فسخه لدفع الضرر عن غيرهما ممن لم يرض بعقدهما أولى ، ولا يبعد أن يلاقي تصرف الإنسان ملكه ، ثم للغير أن يفسخه لدفع الضرر عن نفسه كالراهن يبيع المرهون أو الآجر يبيع المؤاجر فإن أعتقه الشريك الآخر بعد ذلك نفذ عتقه عندنا .

وقال ابن أبي ليلى لا ينفذ عتقه حتى ينظر ماذا يصنع في المكاتبة فإن أداها عتق وضمن الذي كاتبه نصيب شريكه والولاء كله له وإن عجز ينفذ عتقه وهذا بناء على أصله أن الكتابة لا تتجزى وأن المولى بعقد الكتابة يستحق الولاء فإذا صار المكاتب مستحقا لجميع ولائه لا يملك الآخر إبطاله عليه بالإعتاق ولكن يتوقف حكم إعتاقه لتوقف ملكه في نصيبه فإن أدى الكتابة تبين أن نصيب الشريك كان منتقلا إلى المكاتب فيضمن المكاتب له نصف قيمته ، والولاء كله له وإن عجز تبين أنه كان مشتركا بينهما فينفذ عتق المعتق في نصيبه فأما عندنا : نصيب الشريك باق على ملكه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى غير مكاتب وعندهما مكاتب كان متمكنا من فسخ الكتابة فيعتق نصيبه بإعتاقه وإذا أعتق فالمكاتب بالخيار في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن شاء مضى على الكتابة وأدى البدل وكان ولاؤه لهما ، وإذا اختار ذلك فليس للمكاتب أن يضمن المعتق شيئا ; لأنه ما أتلف عليه شيئا من حقه وإن شاء عجز نفسه فعند ذلك يخير الذي كاتبه بين عتقه [ ص: 35 ] واستسعائه ، وتضمين شريكه لما بينا .

وعندهما يعتق كله بإعتاق أحدهما وإن كان المعتق موسرا فللآخر حق التضمين فإن كان معسرا فللآخر حق الاستسعاء على ما بينا من الاختلاف بينهما وعلى هذا لو كاتب الآخر نصيبه أيضا عند ابن أبي ليلى لا ينفذ منه وعندنا ينفذ ويكون مكاتبا بينهما وليس للمكاتب الأول أن يفسخ عقد الثاني وإن باشره بغير إذنه ; لأن ثبوت حق الفسخ لمعنى دفع الضرر ولا ضرر عليه هنا ; لأن نصيبه مكاتب ، ثم المسألة في كتابة أحد الشريكين على ثلاثة أوجه :

أحدها أن يكون بغير إذن شريكه ويستوفي البدل قبل أن يفسخ الشريك الكتابة فنقول على قول أبي حنيفة رحمه الله يعتق نصيبه لوجود شرط العتق ، وهو أداء البدل ، ثم يكون للساكت أن يأخذ من المكاتب نصف ما أخذ من العبد ; لأن المؤدى كسبه وكسبه كان مشتركا بينهما فله أن يأخذ نصف ذلك منه ونصف ما بقي من الكسب في يد العبد أيضا ، ثم يرجع المكاتب على العبد بما أخذه منه شريكه ; لأن جميع البدل كان بمقابلة نصيبه وقد سلم نصيبه للعبد أيضا ولم يسلم للمولى نصف البدل فيرجع به عليه كما لو استحقه مستحق آخر من يده ، ثم إن كان المكاتب موسرا فللشريك خيار بين ثلاثة أشياء وإذا اختار التضمين يرجع المكاتب بما ضمن على العبد ، ويكون الولاء كله له وإن اختار الاستسعاء أو الإعتاق أو كان المكاتب معسرا فالولاء بينهما .

وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الجواب كذلك إلا أن المكاتب لا يرجع على العبد بالنصف الذي أخذه شريكه منه ; لأنهعندهما صار الكل مكاتبا فإن جميع البدل مقابل بجميع الكسب ولم يسلم له إلا النصف وقد سلم للمولى من جهته نصف البدل أيضا ، ثم إن كان المكاتب موسرا فليس للساكت إلا التضمين وإن كان معسرا فليس له إلا الاستسعاء .

والوجه الثاني : أن يكاتب أحدهما نصيبه بإذن شريكه فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا استوفى البدل عتق نصيبه وللشريك أن يرجع عليه بنصف ما أخذ أيضا وبنصف ما بقي من الكسب في يد العبد ; لأنه أداه من كسبه وإذنه في العقد لا يكون إذنا في قبض البدل . ألا ترى أن الوكيل بالكتابة لا يملك قبض البدل فلهذا كان هذا الفصل والفصل الأول سواء عنده إلا في حكمين :

أحدهما أنه لا يكون للآخر حق فسخ الكتابة ، والآخر أنه لا يكون له أن يضمن المكاتب بعد العتق لوجود الرضا منه بالسبب وعلى قولهما إذنه في كتابة نصيبه يكون إذنا في كتابة الكل فيصير الكل مكاتبا بينهما إلا أن يقبض أحدهما جميع البدل لا يعتق ما لم يصل إلى الآخر نصيبه ; لأن [ ص: 36 ] المكاتب في نصيبه كان وكيلا والوكيل بالكتابة لا يملك القبض للبدل فإن وصل إلى الآخر نصيبه حينئذ يعتق وما بقي من الكسب كله سالم للعبد .

والوجه الثالث : أن يأذن أحدهما لشريكه في أن يكاتب نصيبه ويقبض البدل فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا قبض المكاتب البدل فليس للشريك أن يرجع بشيء من المقبوض ; لأنه قبضه برضاه وصار هو آذنا للعبد في أن يقضي دينه بكسبه فلا يثبت له حق استرداد شيء من القابض بخلاف الأول .

وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يعتق كله بقبض المكاتب سواء وصل إلى الشريك نصيبه أو لم يصل ; لأنه كان وكيلا من جهته في قبض البدل فيعتق العبد بالأداء إليه والمقبوض مشترك بينهما ولا سبيل للشريك على ما بقي من كسب العبد في يده سواء وصل إليه نصيبه مما قبضه المكاتب أو لم يصل بأن هلك في يده ; لأن هلاك نصيبه في يد وكيله كهلاكه في يده وإن كان أحد الشريكين كاتب جميع العبد فقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في هذا كقولهما حتى إذا عتق بالأداء إليه رجع الشريك عليه بنصف المقبوض وإذا كان بغير إذنه لم يكن له أن يرجع على العبد بشيء من ذلك ; لأن جميع البدل هنا بمقابلة جميع الكسب والرقبة ولم يسلم له من جهة المكاتب إلا النصف وقد سلم للمكاتب نصف البدل أيضا فلا يرجع عليه بشيء آخر فإنأذن أحدهما لصاحبه أن يكاتب نصيبه ويقبض البدل ، ثم نهاه بعد ما قبض بعضه صح نهيه ; لأن إذنه للمكاتب في قضاء دينه بنصيبه من الكسب لا يكون ملزما شيئا إياه فيكون له أن يرجع عن ذلك حتى يشاركه فيما يقبض بعده ولا يشاركه فيما كان قبض قبل النهي اعتبارا للبعض بالكل .

وإن كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه فلم يعلم به شريكه حتى كاتبه نصيبه بإذن الأول ، ثم علم بكتابة الأول فأراد ردها لم يكن له ذلك ; لأنه بمباشرة الكتابة في نصيبه صار مسقطا لخياره فإن الخيار له كان لدفع الضرر ، وقد التزم ذلك الضرر ، ثم ما يأخذ واحد منهما بعد هذا منه فهو سالم له لا يشاركه الآخر فيه ; لأن نصيب كل واحد منهما صار مكاتبا بعقد باشره بنفسه فلا يكون بينهما في البدل شركة كما لو باع كل واحد منهما نصيبه بعقد على حدة بخلاف ما إذا كاتباه معا ; لأن البدل هناك وجب لهما بعقد واحد وإن كان الأول أخذ منه شيئا قبل كتابة الثاني كان للثاني أن يشاركه فيه ; لأن الثاني إنما يكون مسقطا حقه عن كسبه بكتابة نفسه فيقتصر ذلك على ما يكتسبه بعد كتابته فلا يتعدى إلى ما كان قبله وإن أذن كل واحد منهما لصاحبه في مكاتبة نصيبه منه فهذا إذن له [ ص: 37 ] في القبض ولا يرجع أحدهما فيما قبض الآخر ولا يشاركه .

وقوله وهذا إذن له في القبض تجوز في العبارة فإن الإذن في الكتابة لا يكون إذنا في القبض ولكن إنما لا يرجع واحد منهما على صاحبه ; لأن المكاتب صار أحق بجميع كسبه ، ونصيب كل واحد منهما من البدل واجب بعقد على حدة فلا شركة بينهما في المقبوض .

وإن كاتب أحدهما نصيبه منه بعد ما أذن له صاحبه في الكتابة والقبض فقبض بعض الكتابة ، ثم عجز الغلام ففي القياس للشريك أن يرجع على القابض بنصف المقبوض ; لأنه إنما رضي بقبضه ليعتق نصيبه به ولم يعتق حين عجز الغلام ولأنه إنما رضي الآذن بأن يقضي العبد دينه بنصيبه من الكسب وبعد العجز لا دين فبقي هو كسب عبد مشترك بينهما فله أن يأخذ منه نصفه ، وفي الاستحسان لا سبيل له عليه فيما قبض اعتبارا للبعض بالكل وهذا ; لأنه صار مسقطا حقه عن المقبوض حين أذن له في قبضه فلا يعود حقه فيه بعجز الغلام ألا ترى أنه لو تبرع إنسان بقضاء بعض البدل عن المكاتب ، ثم عجز المكاتب عما بقي لم يكن للمتبرع استرداد ما تبرع به فهذا مثله وإذا كاتب أحدهما كله بغير إذن شريكه ، ثم وهب للعبد نصف المكاتبة لم يعتق منه شيء كما لو كان العبد كله له وهذا ; لأنه أضاف الهبة إلى نصف شائع فلا يتعين لذلك حصة نصيبه خاصة فلهذا لا يعتق .

وإن قال وهبت لك جميع حصتي من هذه المكاتبة عتق إما ; لأن جميع البدل وجب بعقده فكان هذا وقوله وهبت لك المكاتبة كلها سواء أو ; لأنه بريء من حصته من البدل حين أضاف الهبة إلى نصيبه خاصة بمنزلة ما لو كاتباه ، ثم وهب أحدهما جميع حصته إلا أن الأول أصح ; لأن العبد هنا لا يعتق إلا بأداء جميع البدل إليه فعلم أن هبة جميع حصته تكون هبة لجميع المكاتبة مكاتبة بين رجلين علقت من أحدهما فهي بالخيار ; لأنه تلقاها جهتا حرية فإن شاء عجزت فكانت أم ولد له ويضمن لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها ; لأنها أمة بينهما وقد استولدها وإن شاءت مضت على الكتابة وأخذت عقرها فإن مضت على الكتابة ، ثم علقت من الآخر ، ثم عجزت فالولد الأول للأول ، والولد الثاني للثاني ; لأن نصفها في الظاهر مكاتب له حين استولدها وذلك يكفي لثبوت نسب الولد الثاني منه ، وهي أم ولد للأول ; لأنه استحق حق أمية الولد في جميعها إلا أن المكاتبة في نصيب الآخر كان مانعا من ظهور هذا الاستحقاق قبل العجز وقد ارتفع هذا المانع بالعجز فصارت أم ولد له من ذلك الوقت ألا ترى أن الخيار إذا سقط في البيع [ ص: 38 ] بشرط الخيار يثبت الملك للمشتري من وقت العقد حتى يستحق الزوائد وإذا صارت أم ولد له فعليه نصف قيمتها للثاني وعلى الثاني جميع قيمة الولد ; لأنه تبين أنه استولد مملوكة الغير ولكنه كان مغرورا باعتبار ظاهر الملك فيكون ولده حرا بالقيمة ولم يذكر حكم العقر ; لأنه على رواية هذا الكتاب وجب نصف العقر على الثاني ونصف العقر على الأول فيكون أحدهما قصاصا بالآخر .

وقد بينا في كتاب الدعوى أن الأصح وجوب جميع العقر على الثاني ، ثم يكون النصف بالنصف قصاصا ويبقى للأول نصف العقر على الثاني ، وبينا هناك أن قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أيضا أنه حين استولدها أحدهما صار الكل أم ولد له ، وهي مكاتبة فلا يصح استيلاد الثاني بعد ذلك ولا يثبت النسب منه بالدعوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية