الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قوله تعالى : أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فإن السلف قد تنازعوا في معنى الملامسة المذكورة في هذه الآية ، فقال علي وابن عباس وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي : ( هي كناية عن الجماع ) وكانوا لا يوجبون الوضوء لمن مس امرأته . وقال عمر وعبد الله بن مسعود : ( المراد اللمس [ ص: 4 ] باليد ) وكانا يوجبان الوضوء بمس المرأة ولا يريان للجنب أن يتيمم . فمن تأوله من الصحابة على الجماع لم يوجب الوضوء من مس المرأة ، ومن حمله على اللمس باليد أوجب الوضوء من مس المرأة ولم يجز التيمم للجنب . واختلف الفقهاء في ذلك أيضا ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي : ( لا وضوء على من مس امرأة لشهوة مسها أو لغير شهوة ) . وقال مالك : ( إن مسها لشهوة تلذذا فعليه الوضوء وكذلك إن مسته تلذذا فعليها الوضوء ) ، وقال : ( إن مس شعرها تلذذا فعليه الوضوء وإذا قال لها شعرك طالق طلقت ) . وقال الحسن بن صالح : ( إن قبل لشهوة فعليه الوضوء وإن كان لغير شهوة فلا وضوء عليه ) . وقال الليث : ( إن مسها فوق الثياب تلذذا فعليه الوضوء ) . وقال الشافعي : ( إذا مس جسدها فعليه الوضوء لشهوة أو لغير شهوة ) . والدليل على أن لمسها ليس بحدث على أي وجه كان ، ما روي عن عائشة من طرق مختلفة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ ، كما روي : أنه كان يقبل بعض نسائه وهو صائم . وقد روي الأمران جميعا في حديث واحد .

ولا يجوز حمله على أنه قبل خمارها وثوبها لوجهين :

أحدهما : أنه لا يجوز أن يحمل اللفظ على المجاز بغير دلالة ؛ إذ حقيقته أن يكون قد باشر جلدها حيث قبلها ، وما ذكره الخصم يكون قبلة لخمارها .

والثاني : أنه لا فائدة في نقله . وأيضا فإنه لم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم من الوحشة وبين أزواجه أن يكون مستورات عنه لا يصيب منها إلا الخمار . ومن حديث عائشة أنها طلبت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ، قالت : فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول : أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك . فلو كان مس المرأة حدثا لما مضى في سجوده ؛ لأن المحدث لا يجوز له أن يبقى على حال السجود .

وحديث أبي قتادة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص ، فإذا سجد وضعها ، وإذا رفع رأسه حملها ؛ ومعلوم أن من فعل ذلك لا يخلو من وقوع يده على شيء من بدنها ، فثبت بذلك أن مس المرأة ليس بحدث . وهذه الأخبار حجة على من يجعل اللمس حدثا لشهوة أو لغير شهوة ، ولا يحتج بها على من اعتبر اللمس لشهوة ؛ لأنه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لشهوة ، ومسه أمامة قد علم يقينا أنه لم يكن لشهوة . والذي يحتج به على الفريقين أنه معلوم عموم البلوى بمس النساء لشهوة ، والبلوى بذلك أعم منها بالبول والغائط ونحوهما ، فلو كان حدثا لما أخلى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة من التوقيف عليه لعموم البلوى به [ ص: 5 ] وحاجتهم إلى معرفة حكمه ، ولا جائز في مثله الاقتصار بالتبليغ إلى بعضهم دون بعض ؛ فلو كان منه توقيف لعرفه عامة الصحابة ؛ فلما روي عن الجماعة الذين ذكرناهم من الصحابة أنه لا وضوء فيه ، دل على أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم توقيف لهم عليه ، وعلم أنه لا وضوء فيه .

فإن قيل : يلزمك مثله لخصمك ؛ لأن لو لم يكن فيه وضوء لكان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف للكافة عليه ؛ لأنه لا وضوء فيه لعموم البلوى به . قيل له : لا يجب ذلك في نفي الوضوء منه كما يجب في إثباته ؛ وذلك لأنه معلوم أن الوضوء منه لم يكن واجبا في الأصل ، فجائز أن يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان معلوما عندهم من نفي وجوب الطهارة ، ومتى شرع الله تعالى فيه إيجاب الوضوء فغير جائز أن يتركهم بغير توقيف عليه مع علمه بما كانوا عليه من نفي إيجابه ؛ لأن ذلك يوجب إقرارهم على خلاف ما تعبدوا به ، فلما وجدنا قوما من جلة الصحابة لم يعرفوا الوضوء من مس المرأة علمنا أنه لم يكن منه توقيف على ذلك .

فإن قيل جائز أن لا يكون منه توقيف في حال ذلك اكتفاء بما في ظاهر الكتاب من قوله تعالى : أو لامستم النساء وحقيقته هو اللمس باليد وبغيرها من الجسد . قيل له : ليس في الآية نص على أحد المعنيين ، بل فيها احتمال لكل واحد منهما ؛ ولأجل ذلك اختلفوا في معناها وسوغوا الاجتهاد في طلب المراد بها ؛ فليس إذا فيها توقيف في إيجاب الوضوء مع عموم الحاجة إليه . وأيضا اللمس يحتمل الجماع على ما تأوله علي وابن عباس وأبو موسى ، ويحتمل اللمس باليد على ما روي عن عمر وابن مسعود ؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ، أبان ذلك عن مراد الله تعالى . ووجه آخر يدل على أن المراد منه الجماع وهو أن اللمس وإن كان حقيقة للمس باليد فإنه لما كان مضافا إلى النساء وجب أن يكون المراد منه الوطء ، كما أن الوطء حقيقته المشي بالأقدام فإذا أضيف إلى النساء لم يعقل منه غير الجماع ، كذلك هذا ؛ ونظيره قوله تعالى : وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن يعني : من قبل أن تجامعوهن . وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الجنب بالتيمم في أخبار مستفيضة ، ومتى ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم ينتظمه لفظ الآية وجب أن يكون فعله إنما صدر عن الكتاب ، كما أنه لما قطع السارق وكان في الكتاب لفظ يقتضيه كان قطعه معقولا بالآية ، وكسائر الشرائع التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مما ينطوي عليه ظاهر الكتاب .

وإذا ثبت أن المراد باللمس الجماع انتفى منه مس اليد من وجوه :

أحدها : اتفاق السلف من الصدر الأول أن [ ص: 6 ] المراد أحدهما لأن عليا وابن عباس وأبا موسى لما تأولوه على الجماع لم يوجبوا نقض الطهارة بلمس اليد ، وعمر وابن مسعود لما تأولاه على اللمس لم يجيزا للجنب التيمم ، فاتفق الجميع منهم على أن المراد أحدهما . ومن قال إن المراد هما جميعا فقد خرج عن اتفاقهم وخالف إجماعهم في أن المراد أحدهما . وما روي عن ابن عمر أن قبلة الرجل لامرأته من الملامسة ، فلا دلالة فيه على أنه كان يرى المعنيين جميعا مرادين بالآية ، بل كان مذهبه في ذلك مذهب عمر وابن مسعود ؛ فبين في هذا الخبر بأن اللمس ليس بمقصور على اليد وإنما يكون أيضا بالقبلة وبغيره من المعانقة والمضاجعة ونحوها . ووجه آخر يدل على أنه لا يجوز أن يرادا جميعا بالآية ، وهو أن اللمس باليد إنما يوجب الوضوء عند مخالفينا ، والجماع يوجب الغسل ، وغير جائز أن يتعلق بعموم واحد حكمان مختلفان فيما انتظمه ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : والسارق والسارقة لما كان لفظ عموم لم يجز أن ينتظم السارقين لا يقطع أحدهما إلا في عشرة ويقطع الآخر في خمسة ؟ وإذا ثبت أن الجماع مراد بما وصفنا وهو يوجب الغسل انتفى دخول اللمس باليد فيه .

فإن قيل : لم يختلف حكم موجب اللفظ في إرادته الجماع واللمس باليد ؛ لأن الواجب فيهما التيمم المذكور في الآية . قيل له : التيمم بدل والأصل هو الطهارة بالماء ، ومحال إيجاب التيمم إلا وقد وجب قبل ذلك الطهارة بالماء وهو بدل فيها ، فغير جائز أن يكون اللمس المذكور موجبا للوضوء في إحدى الحالتين وموجبا للغسل في أخرى . وأيضا فإن التيمم وإن كان بصورة واحدة فإن حكمه مختلف ؛ لأن أحدهما ينوب عن غسل جميع الأعضاء والآخر عن غسل بعضها ، فغير جائز أن ينتظمهما لفظ واحد ، فمتى وجب لأحد المعنيين فكأنه قد نص عليه وذكره بأن قال هو الجماع فلا يدخل فيه اللمس باليد . ويدل على انتفاء إرادتهما أن اللمس متى أريد به الجماع كان اللفظ كناية ، وإذا أريد منه اللمس باليد كان صريحا ؛ وكذلك روي عن علي وابن عباس أنهما قالا : ( اللمس هو الجماع ولكنه كني ) وغير جائز أن يكون لفظ واحد كناية صريحا في حال واحدة . ومن جهة أخرى يمتنع ذلك ، وهو أن الجماع مجاز والحقيقة هي اللمس باليد ، ولا يجوز أن يكون لفظ واحد حقيقة مجازا في حال واحدة .

فإن قيل : لم لا يكون عموما في اللمس من حيث كان الجماع أيضا مسا ويكون حقيقة فيهما جميعا ؟ قيل له : يمتنع ذلك من وجوه :

أحدها : أنه قد روي عن علي وابن عباس أنه كناية عن الجماع ، وهما أعلم باللغة من [ ص: 7 ] هذا القائل ، فبطل قول القائل إن اللمس صريح فيهما جميعا . والآخر : ما بينا من امتناع عموم واحد مقتضيا لحكمين مختلفين فيما دخلا فيه ولأن اللمس إذا أريد به مماسة في الجسد فقد حصل نقض الطهارة ووجب التيمم المذكور في الآية بمسه إياها قبل حصول الجماع لاستحالة أن يحصل جماع إلا ويحصل قبله لمس لجسدها ، فلا يكون الجماع حينئذ موجبا للتيمم المذكور في الآية لوجوبه قبل ذلك بمس جسدها . ويدل على أن المراد الجماع دون لمس اليد أن الله تعالى قال : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا أبان به عن حكم الحدث في حال وجود الماء ، ثم عطف عليه قوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله : فتيمموا صعيدا طيبا فأعاد ذكر حكم الحدث في حال عدم الماء ، فوجب أن يكون قوله : أو لامستم النساء على الجنابة لتكون الآية منتظمة لهما مبينة لحكمهما في حال وجود الماء وعدمه ، ولو كان المراد اللمس باليد لكان ذكر التيمم مقصورا على حال الحدث دون الجنابة غير مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء ، وحمل الآية على فائدتين أولى من الاقتصار بها على فائدة واحدة ؛ وإذا ثبت أن المراد الجماع انتفى اللمس باليد ، لما بينا من امتناع إرادتهما بلفظ واحد .

فإن قيل : إذا حمل على اللمس باليد كان مفيدا لكون اللمس حدثا ، وإذا جعل مقصورا على الجماع لم يفد ذلك ؛ فالواجب على قضيتك في اعتبار الفائدتين حمله عليهما جميعا ، فيفيد كون اللمس حدثا ويفيد أيضا جواز التيمم للجنب فإن لم يجز حمله على الأمرين لما ذكرت من اتفاق السلف على أنهما لم يرادا ولامتناع كون اللفظ مجازا حقيقة أو كناية وصريحا فقد ساويناك في إثبات فائدة مجددة بحمله على اللمس باليد مع استعمالنا حقيقة اللفظ فيه ، فما جعلك إثبات فائدة من جهة إباحة التيمم للجنب أولى ممن أثبت فائدته من جهة كون اللمس باليد حدثا ؟ قيل له : لأن قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة مفيد لحكم الأحداث في حال وجود الماء ، ونص مع ذلك على حكم الجنابة فالأولى أن يكون ما في نسق الآية من قوله : أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله : أو لامستم النساء بيانا لحكم الحدث والجنابة في حال عدم الماء كما كان في أول الآية بيانا لحكمهما في حال وجوده ، وليس موضوع الآية في بيان تفصيل الأحداث وإنما هي في بيان حكمها ، وأنت متى حملت اللمس على بيان الحدث فقد أزلتها عن مقتضاها وظاهرها ؛ فلذلك كان ما ذكرناه أولى . ووجه آخر : وهو أن حمله على [ ص: 8 ] الجماع يفيد معنيين :

أحدهما : إباحة التيمم للجنب في حال عوز الماء ، والآخر : أن التقاء الختانين دون الإنزال يوجب الغسل ، فكان حمله على الجماع أولى من الاقتصار به على فائدة واحدة وهو كون اللمس حدثا .

ودليل آخر على ما ذكرنا من معنى الآية : وهو أنها قد قرئت على وجهين : أو لامستم النساء و (لمستم) فمن قرأ : أو لامستم فظاهره الجماع لا غيره لأن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين إلا في أشياء نادرة ، كقولهم : " قاتله الله " و " جازاه وعافاه الله " ونحو ذلك ، وهي أحرف معدودة لا يقاس عليها أغيارها ؛ والأصل في المفاعلة أنها بين اثنين ، كقولهم : ( قاتله وضاربه وسالمه وصالحه ) ونحو ذلك ، وإذا كان ذلك حقيقة اللفظ فالواجب حمله على الجماع الذي يكون منهما جميعا ؛ ويدل على ذلك أنك لا تقول : ( لامست الرجل ولامست الثوب ) إذا مسسته بيدك لانفرادك بالفعل ، فدل على أن قوله : أو لامستم بمعنى : أو جامعتم النساء ، فيكون حقيقته الجماع ؛ وإذا صح ذلك وكانت قراءة من قرأ : ( أو لمستم ) يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع ، وجب أن يكون ذلك محمولا على ما لا يحتمل إلا معنى واحدا ؛ لأن ما لا يحتمل إلا معنى واحدا فهو المحكم ، وما يحتمل معنيين فهو المتشابه ، وقد أمرنا الله تعالى بحمل المتشابه على المحكم ورده إليه بقوله : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب الآية ، فلما جعل المحكم أما للمتشابه فقد أمرنا بحمله عليه ، وذم متبع المتشابه باقتصاره على حكمه بنفسه دون رده إلى غيره بقوله : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه فثبت بذلك أن قوله : ( أو لمستم ) لما كان محتملا للمعنيين كان متشابها ، وقوله : أو لامستم لما كان مقصورا في مفهوم اللسان على معنى واحد كان محكما ، فوجب أن يكون معنى المتشابه مبنيا عليه .

فإن قيل : لما قرئت الآية على الوجهين اللذين ذكرت وكان أحد الوجهين لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو قراءة من قرأ : أو لامستم النساء والوجه الآخر يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع ، وجب أن نجعل القراءتين كالآيتين لو وردتا ، إحداهما كناية عن الجماع فنستعملها فيه ، والأخرى صريحة في اللمس باليد خاصة فنستعملها فيه دون الجماع ، ويكون كل واحد من اللفظين مستعملا على مقتضاه من كناية أو صريح ؛ إذ لا يكون لفظ واحد حقيقة مجازا ولا كناية صريحا في حال واحدة ، ونكون مع ذلك قد استعملنا حكم القراءتين على فائدتين دون الاقتصار بهما على فائدة واحدة . قيل له : لا يجوز ذلك ؛ لأن السلف من الصدر الأول [ ص: 9 ] المختلفين في مراد الآية قد عرفوا القراءتين جميعا ؛ لأن القراءتين لا تكونان إلا توقيفا من الرسول للصحابة عليهما ، وإذا كانوا قد عرفوا القراءتين ثم لم يعتبروا هذا الاعتبار ولم يحتج بهما موجبو الوضوء من اللمس علمنا بذلك بطلان هذا القول . وعلى أنهم مع ذلك لم يحملوهما على المعنيين بل اتفقوا على أن المراد أحدهما ، وحمله كل واحد من المختلفين على معنى غير ما تأوله عليه صاحبه من جماع أو لمس بيد دون الجماع ؛ فثبت بذلك أن القراءتين على أي وجه حصلتا لم تقتضيا بمجموعهما ولا بانفراد كل واحدة منهما الأمرين جميعا ، ولم يجعلوهما بمنزلة الآيتين إذا وردتا ، فيجب استعمال كل واحدة منهما على حيالها وحملها على مقتضاها وموجبها .

وكان أبو الحسن الكرخي يجيب على ذلك بجواب آخر ، وهو أن سبيل القراءتين غير سبيل الآيتين ؛ وذلك لأن حكم القراءتين لا يلزم معا في حال واحدة بل بقيام إحداهما مقام الأخرى ، ولو جعلناهما كالآيتين لوجب الجمع بينهما في القراءة وفي المصحف والتعليم ؛ لأن القراءة الأخرى بعض القرآن ولا يجوز إسقاط شيء منه ، ولكان من اقتصر على إحدى القراءتين مقتصرا على بعض القرآن لا على كله ، وللزم من ذلك أن المصاحف لم يثبت فيها جميع القرآن ، وهذا خلاف ما عليه جميع المسلمين ؛ فثبت بذلك أن القراءتين ليستا كالآيتين في الحكم بل تقرآن على أن تقام إحداهما مقام الأخرى لا على أن يجمع بين أحكامهما كما لا يجمع بين قراءتهما وإثباتهما في المصحف معا . ويدل على أن اللمس ليس بحدث إنما كان حدثا لا يختلف فيه الرجال والنساء ، ولو مست امرأة امرأة لم يكن حدثا كذلك مس الرجل إياها وكذلك مس الرجل الرجل ليس بحدث فكذلك مس المرأة . ودلالة ذلك على ما وصفنا من وجهين :

أحدهما : أنا وجدنا الأحداث لا تختلف فيها الرجال والنساء ، فكل ما كان حدثا من الرجل والمرأة فقوله خارج عن الأصول . ومن جهة أخرى أن العلة في مس المرأة المرأة والرجل الرجل أنه مباشرة من غير جماع فلم يكن حدثا ، كذلك الرجل والمرأة .

فإن قيل : قد أوجب أبو حنيفة الوضوء على من باشر امرأته وانتشرت آلته وليس بينهما ثوب ، ولا فرق بين مسها بيده وبين مسها ببدنه . قيل له : لم يوجب أبو حنيفة هاهنا الوضوء بالمباشرة وإنما أوجبه إذا التقى الفرجان من غير إيلاج ، كذلك رواه محمد عنه ؛ وذلك لأن الإنسان لا يكاد يبلغ هذه الحال إلا ويخرج منه شيء وإن لم يشعر به ، فلما كان الغالب في هذه الحال خروج شيء منه وإن [ ص: 10 ] لم يشعر به أوجب الوضوء له احتياطا فحكم له بحكم الحدث ، كما أنه لما كان الغالب من حال النوم وجود الحدث فيه حكم له بحكم الحدث ؛ فليس إذا في ذلك إيجاب الوضوء من اللمس ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية