الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ومنهم من يلمزك في الصدقات قال الحسن : يعيبك . وقيل : اللمز العيب سرا ، والهمز العيب بكسر العين ، وقال قتادة : يطعن عليك . ويقال : إن هؤلاء كانوا قوما منافقين أرادوا أن يعطيهم رسول الله من الصدقات ، ولم يكن جائزا أن يعطيهم منها ؛ لأنهم ليسوا من أهلها ، فطعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات ، وقالوا يؤثر بها أقرباءه وأهل مودته ، ويدل عليه قوله تعالى : فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون وأخبر أنه لا حظ لهؤلاء في الصدقات ، وإنما هي للفقراء والمساكين ومن ذكر . قوله تعالى : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله فيه ضمير جواب { لو } تقديره : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله لكان خيرا لهم أو أعود عليهم ، وحذف الجواب في مثله أبلغ ؛ لأنه لتأكيد الخبر به استغنى عن ذكره مع أن النفس تذهب إلى كل نوع منه ، والذكر يقصره على المذكور منه دون غيره . وفيه إخبار على أن الرضا بفعل الله يوجب المزيد من الخير جزاء للراضي على فعله .

قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية قال الزهري : الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل .

وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في حد الفقير والمسكين مثل هذا ؛ وهذا يدل على أنه رأى المسكين أضعف حالا وأبلغ في جهد الفقر والعدم من الفقير وروي عن ابن عباس والحسن وجابر بن زيد والزهري ومجاهد قالوا : الفقير : المتعفف الذي لا يسأل ، والمسكين : الذي يسأل ؛ فكان قول أبي حنيفة موافقا لقول هؤلاء السلف ، ويدل على هذا قوله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا فسماهم فقراء ، ووصفهم بالتعفف وترك المسألة ، وروي عن قتادة قال : الفقير ذو الزمانة من أهل الحاجة والمسكين الصحيح منهم . وقيل : إن الفقير هو المسكين إلا أنه ذكر بالصفتين لتأكيد أمره في استحقاق الصدقة . وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول : { المسكين هو الذي لا شيء له ، والفقير هو الذي له أدنى بلغة } ويحكي ذلك عن أبي العباس ثعلب ، قال : وقال أبو العباس : حكي عن بعضهم أنه قال : قلت لأعرابي : أفقير أنت ؟ قال : لا بل مسكين وأنشد عن ابن الأعرابي :

أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد

[ ص: 323 ] فسماه فقيرا مع وجود الحلوبة . قال : وحكى محمد بن سلام الجمحي عن يونس النحوي أنه قال : { الفقير يكون له بعض ما يغنيه ، والمسكين الذي لا شيء له } . قال أبو بكر : قوله تعالى : يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف يدل على أن الفقير قد يملك بعض ما يغنيه ؛ لأنه لا يحسه الجاهل بحاله غنيا إلا وله ظاهر جميل ، وبزة حسنة ، فدل على أن ملكه لبعض ما يغنيه لا يسلبه صفة الفقر . وكان أبو الحسن يستدل على ما قال في صفة المسكين بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن المسكين ليس بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد ما يغنيه قال : فلما نفى المبالغة في المسكنة عمن ترده التمرة والتمرتان ، وأثبتها لمن لا يجد ذلك وسماه مسكينا ، دل ذلك على أن المسكين أضعف حالا من الفقير . قال : ويدل عليه قوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة روي في التفسير أنه الذي قد لزق بالتراب وهو جائع عار لا يواريه عن التراب شيء ، فدل ذلك على أن المسكين في غاية الحاجة والعدم .

فإن قيل : قال الله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأثبت لهم ملك السفينة ، وسماهم مساكين . قيل له : قد روي أنهم كانوا أجراء فيها ، وأنهم لم يكونوا ملاكا لها ، وإنما نسبها إليهم بالتصرف والكون فيها ، كما قال الله تعالى : لا تدخلوا بيوت النبي وقال في موضع آخر : وقرن في بيوتكن فأضاف البيوت تارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتارة إلى أزواجه ، ومعلوم أنها لم تخل من أن تكون ملكا له أو لهن ؛ لأنه لا يجوز أن تكون لهن ، وله في حال واحدة ، لاستحالة كونها ملكا لكل واحد منهم على حدة فثبت أن الإضافة إنما صحت لأجل التصرف والسكنى ، كما يقال : { هذا منزل فلان } وإن كان ساكنا فيه غير مالك له و { هذا مسجد فلان } ، ولا يراد به الملك ، وكذلك قوله : أما السفينة فكانت لمساكين هو على هذا المعنى ، ويقال إن الفقير إنما سمي بذلك ؛ لأنه من ذوي الحاجة بمنزلة من قد كسرت فقاره ، يقال منه فقر الرجل فقرا ، وأفقره الله إفقارا ، وتفاقر تفاقرا ، والمسكين الذي قد أسكنته الحاجة ، وروي عن إبراهيم النخعي والضحاك في الفرق بين الفقير والمسكين . أن الفقراء المهاجرون والمساكين من غير المهاجرين ، كأنهما ذهبا إلى قوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وروى سعيد عن قتادة قال : الفقير الذي به زمانة وهو فقير إلى بعض جسده ، وبه حاجة ، والمسكين المحتاج الذي لا زمانة به .

وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب قال : ليس المسكين بالذي لا مال له ، ولكن [ ص: 324 ] المسكين الذي لا يصيب المكسب . وهذا الذي قدمنا يدل على أن الفقير أحسن حالا من المسكين ، وأن المسكين أضعف حالا منه . وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة فيمن قال ثلث مالي للفقراء والمساكين ولفلان , أن لفلان الثلث والثلثان للفقراء والمساكين ؛ فهذا موافق لما روي عنه في الفرق بين الفقير والمسكين وأنهما صنفان . وروي عن أبي يوسف في هذه المسألة : أن نصف الثلث لفلان ، ونصفه للفقراء والمساكين ؛ فهذا يدل على أنه جعل الفقراء والمساكين صنفا واحدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية