الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب دفع الصدقات إلى صنف واحد قال الله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية . فروى أبو داود الطيالسي قال : حدثنا أشعث بن سعيد عن عطاء عن سعيد بن جبير عن علي وابن عباس قالا : إذا أعطى الرجل الصدقة صنفا واحدا من الأصناف الثمانية أجزأه ، وروى مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وحذيفة ، وعن سعيد بن جبير وإبراهيم وعمر بن عبد العزيز ، وأبي العالية ، ولا يروى عن الصحابة خلافه ، فصار إجماعا من السلف لا يسع أحدا خلافه لظهوره واستفاضته فيهم من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائهم عليهم .

وروى الثوري عن إبراهيم بن [ ص: 345 ] ميسرة عن طاوس عن معاذ بن جبل : أنه كان يأخذ من أهل اليمن العروض في الزكاة ويجعلها في صنف واحد من الناس ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ومالك بن أنس . وقال الشافعي : { تقسم على ثمانية أصناف إلا أن يفقد صنف فتقسم في الباقين لا يجزي غيره } وهذا قول مخالف لقول من قدمنا ذكره من السلف ومخالف للآثار والسنن وظاهر الكتاب ، قال الله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وذلك عموم في جميع الصدقات ؛ لأنه اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه ، فاقتضت الآية دفع جميع الصدقات إلى صنف واحد من المذكورين ، وهم الفقراء ، فدل على أن مراد الله تعالى في ذكر الأصناف إنما هو بيان أسباب الفقر لا قسمتها على ثمانية ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وذلك يقتضي جواز إعطاء الصدقة هذين دون غيرهما ، وذلك ينفي وجوب قسمتها على ثمانية ، وأيضا فإن قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء عموم في سائر الصدقات ، وما يحصل منها في كل زمان ، وقوله تعالى : للفقراء إلى آخره عموم أيضا في سائر المذكورين من الموجودين ومن يحدث منهم .

ومعلوم أنه لم يرد قسمة كل ما يحصل من الصدقة في الموجودين ، ومن يحدث منهم لاستحالة إمكان ذلك إلى أن تقوم الساعة فوجب أن يجزي إعطاء صدقة عام واحد لصنف واحد ، وإعطاء صدقة عام ثان لصنف آخر ثم كذلك صدقة كل عام لصنف من الأصناف على ما يرى الإمام قسمته ، فثبت بذلك أن صدقة عام واحد أو رجل واحد غير مقسومة على ثمانية . وأيضا لا خلاف أن الفقراء لا يستحقونها بالشركة ، وأنه جائز أن يحرم البعض منهم ، ويعطى البعض فثبت أن المقصد صرفها في بعض المذكورين فوجب أن يجوز إعطاؤها بعض الأصناف كما جاز إعطاؤها بعض الفقراء ؛ لأن ذلك لو كان حقا لهم جميعا لما جاز حرمان البعض وإعطاء البعض .

قال أبو بكر : ويدل عليه ما روي في حديث سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته ، ولم يجد ما يطعم ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينطلق إلى صاحب صدقة بني زريق ليدفع إليه صدقاتهم ؛ فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم دفع صدقاتهم إلى سلمة ، وإنما هو من صنف واحد . وفي حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار في الرجلين اللذين سألا النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة ، فرآهما جلدين فقال : إن شئتما أعطيتكما ، ولم يسألهما من أي الأصناف هما ليحسبهما من الصنف ، ويدل على أنها مستحقة بالفقر قوله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 346 ] أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم ، وأردها في فقرائكم ، وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم حقا في أموالهم يؤخذ من أغنيائهم ويرد في فقرائهم ، فأخبر أن المعنى الذي به يستحق جميع الأصناف هو الفقر ؛ لأنه عم جميع الصدقة ، وأخبر أنها مصروفة إلى الفقراء ، وهذا اللفظ مع ما تضمن من الدلالة يدل على أن المعنى المستحق به الصدقة هو الفقر ، وأن عمومه يقتضي جواز دفع جميع الصدقات إلى الفقراء حتى لا يعطى غيرهم ، بل ظاهر اللفظ يقتضي إيجاب ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : أمرت

فإن قيل : العامل يستحقه لا بالفقر . قيل له : لم يكونوا يأخذونها صدقة ، وإنما تحصل الصدقة للفقراء ثم يأخذها العامل عوضا من عمله لا صدقة ، كفقير تصدق عليه فأعطاها عوضا عن عمل عمل له ، وكما كان يتصدق على بريرة فتهديه للنبي صلى الله عليه وسلم هدية للنبي ، وصدقة لبريرة .

فإن قيل : فإن المؤلفة قلوبهم قد كانوا يأخذونها صدقة لا بالفقر قيل له : لم يكونوا يأخذونها صدقة ، وإنما كانت تحصل صدقة للفقراء فيدفع بعضها إلى المؤلفة قلوبهم لدفع أذيتهم عن فقراء المسلمين وليسلموا فيكونوا قوة لهم ، فلم يكونوا يأخذونها صدقة بل كانت تحصل صدقة فتصرف في مصالح المسلمين ، إذ كان مال الفقراء جائزا صرفه في بعض مصالحهم إذ كان الإمام يلي عليهم ، ويتصرف في مصالحهم .

فأما ذكر الأصناف فإنما جاء به لبيان أسباب الفقر على ما بينا ، والدليل عليه أن الغارم وابن السبيل ، والغازي لا يستحقونها إلا بالحاجة والفقر دون غيرهما ، فدل على أن المعنى الذي به يستحقونها هو الفقر .

فإن قيل : روى عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي يقول : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم ، فقلت : أعطني من صدقاتهم ففعل ، وكتب لي بذلك كتابا ، فأتاه رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل لم يرض بحكم نبي ، ولا غيره حتى حكم فيها من السماء فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك منها قيل له : هذا يدل على صحة ما قلنا لأنه قال : " إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك " فبان أنها مستحقة لمن كان من أهل هذه الأجزاء ، وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب للصدائي بشيء من صدقة قومه ، ولم يسأله من أي الأصناف هو ، فدل ذلك على أن قوله : " إن الله تعالى جزأها ثمانية أجزاء " معناه ليوضع في كل جزء منها جميعا إن رأى ذلك الإمام ، ولا يخرجها عن جميعهم .

وأيضا فليس تخلو الصدقة من أن تكون مستحقة بالاسم أو بالحاجة أو بهما [ ص: 347 ] جميعا ، وفاسد أن يقال هي مستحقة بمجرد الاسم لوجهين :

أحدهما : أنه يوجب أن يستحقها كل غارم ، وكل ابن سبيل ، وإن كان غنيا ، وهذا باطل .

والوجه الثاني : أنه كان يجب أن يكون لو اجتمع له الفقر ، وابن السبيل أن يستحق سهمين ، فلما بطل هذان الوجهان صح أنها مستحقة بالحاجة .

فإن قيل : قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية ، يقتضي إيجاب الشركة ، فلا يجوز إخراج صنف منها ، كما لو أوصى بثلث ماله لزيد وعمرو وخالد لم يحرم واحد منهم . قيل له : هذا مقتضى اللفظ في جميع الصدقات ، وكذلك نقول ، فيعطي صدقة العام صنفا واحدا ، ويعطي صدقة عام آخر صنفا آخر على قدر اجتهاد الإمام ومجرى المصلحة فيه ، وإنما الخلاف بيننا وبينكم في صدقة واحدة هل يستحقها الأصناف كلها ، وليس في الآية بيان حكم صدقة واحدة ، وإنما فيها حكم الصدقات كلها ، فنقسم الصدقات كلها على ما ذكرنا فنكون قد وفينا الآية حقها من مقتضاها ، واستعملنا سائر الآي التي قدمنا ذكرها ، والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول السلف ، فذلك أولى من إيجاب قسمة صدقة واحدة على ثمانية ، ورد أحكام سائر الآي والسنن التي قدمنا . وبهذا المعنى الذي ذكرنا انفصلت الصدقات من الوصية بالثلث لأعيان ؛ لأن المسمين لهم محصورون ، وكذلك الثلث في مال معين فلا بد من أن يستحقوه بالشركة . وأيضا فلا خلاف أن الصدقات غير مستحقة على وجه الشركة للمسمين لاتفاقهم على جواز إعطاء بعض الفقراء دون بعض ، ولا جائز إخراج بعض الموصى لهم . وأيضا لما جاز التفضيل في الصدقات لبعض على بعض ، ولم يجز ذلك في الوصايا المطلقة ، كذلك جاز حرمان بعض الأصناف كما جاز حرمان بعض الفقراء ، ففارق الوصايا من هذا الوجه ، وأيضا لما كانت الصدقة حقا لله تعالى لا لآدمي بدلالة أنه لا مطالبة لآدمي يستحقها لنفسه ، فأي صنف أعطي فقد وضعها موضعها ، والوصية لأعيان حق لآدمي لا مطالبة لغيرهم بها ، فاستحقوها كلهم كسائر الحقوق التي للآدميين . ويدل على ذلك أن الله أوجب في الكفارة إطعام مساكين ، ولو أعطى الفقراء جاز ، فكذلك جائز أن يعطي ما سمى للمساكين في آية الصدقات للفقراء ، والوصية مخالفة لذلك لأنه لو أوصى لزيد لم يعط عمرو .

التالي السابق


الخدمات العلمية