الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 233 ] قال ( والمبارأة كالخلع كلاهما يسقطان كل حق لكل واحد من الزوجين على الآخر مما يتعلق بالنكاح عند أبي حنيفة ) وقال محمد : لا يسقط فيهما إلا ما سمياه ، وأبو يوسف معه في الخلع ومع أبي حنيفة في المبارأة . [ ص: 234 ] لمحمد أن هذه معاوضة وفي المعاوضات يعتبر المشروط لا غيره . [ ص: 235 ] ولأبي يوسف أن المبارأة مفاعلة من البراءة فتقتضيها من الجانبين وأنه مطلق قيدناه بحقوق النكاح لدلالة الغرض أما الخلع فمقتضاه الانخلاع وقد حصل في نقض النكاح ولا ضرورة إلى انقطاع الأحكام ، ولأبي حنيفة أن الخلع ينبئ عن الفصل ومنه خلع النعل وخلع العمل وهو مطلق كالمبارأة فيعمل بإطلاقهما في النكاح وأحكامه وحقوقه .

التالي السابق


( قوله والمبارأة كالخلع ) بفتح الهمزة مفاعلة من البراءة وترك الهمزة خطأ كذا في المغرب ، وهو أن يقول بارأتك على ألف وتقبل ، وقوله ( يسقطان كل حق إلى آخره ) مقيد بالمهر والنفقة الماضية إذا كانت مفروضة ، بخلاف نفقة العدة والسكنى في العدة لا تقع البراءة منهما وإن كان من حقوق النكاح ، بل للمختلعة النفقة والسكنى إلا إن اختلعت على نفقة العدة فتسقط دون السكنى لأنها حق الشرع ، وإطلاق جواب المسألة يقتضي سقوط المهر في جميع الصور سواء سميا شيئا في الخلع أو لا [ ص: 234 ] وليس كذلك ، وجملته أنهما إما أن لا يسميا شيئا بأن يقول خالعتك فقبلت ولم يذكرا شيئا أو سميا المهر أو بعضه أو مالا آخر ، فإن لم يسميا شيئا ففيه ثلاث روايات : إحداها لا يبرأ الزوج عن المهر حتى تأخذه إن لم يكن مقبوضا .

والثانية يبرأ كل منهما عنه وعن دين آخر سواه . والثالثة يبرأ كل منهما عن المهر لا غير . فلا يطالب به أحدهما الآخر ، وهو الصحيح على قول أبي حنيفة سواء كانا قبل الدخول أو بعده مقبوضا كان أو لا حتى لا ترجع عليه بشيء إن لم يكن مقبوضا ولا يرجع الزوج عليها به إن كان مقبوضا كله ، والخلع قبل الدخول ، وهذا لأن المال مذكور عرفا بالخلع فحيث لم يصرح به لزم ما هو من حقوق النكاح بقرينة أن المراد الانخلاع منه .

وإن سميا المهر ، فإن كان بعد الدخول وليس مقبوضا سقط عنه كله ، وإن كان مقبوضا رجع عليها بجميعه بالشرط وإن كان قبل الدخول ، فإن كان مقبوضا ففي القياس يرجع عليها به وبقدر نصفه كله بالشرط ونصفه بالطلاق قبل الدخول حتى لو كان ألفا رجع بألف وخمسمائة ، وفي الاستحسان بالمقبوض فقط لأن المهر اسم لما تستحقه المرأة وهو نصف المسمى قبل الدخول فيجب عليها رده بالشرط ورد النصف الآخر بالطلاق قبل الدخول لأنها قبضت مالا تستحقه فيجب عليها رده ، كذا ذكره قاضي خان .

قيل وينبغي أن لا يجب إلا النصف بالشرط ويسقط الباقي بحكم الخلع ، كما إذا خالعها على مال آخر قبل الدخول وقد قبضت كل المهر حيث لا يجب عليها رد شيء منه وسيأتي ، وكما إذا سميا بعض المهر فإنه يجب عليها المسمى بالشرط ويسقط الباقي بحكم الخلع ، ولكن قد يقال ينبغي أن يجب كل المسمى بالشرط لأن المهر اسم لما صحت تسميته في العقد غير أنه سقط نصفه بالطلاق قبل الدخول واشتراط المهر له كان قبل الطلاق فينصرف إلى تمامه ، فإذا كانت قبضته ووقع الطلاق قبل الدخول رجع عليها بكله بالشرط ، وإن لم يكن مقبوضا ففي القياس يسقط عنه كله ويرجع عليها بخمسمائة لأنه يستحق قدره بالشرط وهي تستحق عليه خمسمائة بالطلاق قبل الدخول فيلتقيان قصاصا بقدره ويرجع عليها بالزائد .

وفي الاستحسان : لا يرجع عليها بشيء لما أن المهر اسم لما تستحقه وهو خمسمائة فيجب لها ذلك . ويجب له مثله عليها بالشرط فيلتقيان قصاصا ، وإن سميا بعض المهر بأن خالعها على عشره مثلا والمهر ألف ، فإن كان بعد الدخول وكله مقبوض رجع عليها بمائة بالشرط وسلم الباقي لها ، وإن كان غير مقبوض سقط عنه كله مائة بالشرط والباقي بحكم الخلع ، وإن كان قبل الدخول وكله مقبوض ففي القياس يرجع عليها بستمائة بالشرط وخمسمائة بالطلاق قبل الدخول .

وفي الاستحسان : يرجع عليها بخمسين لأنه عشر مهرها قبل الدخول وبرئت المرأة عن الباقي بحكم لفظ الخلع ، وعلى ما بحثناه ينبغي أن يرجع بمائة ، وإن لم يكن مقبوضا سقط كله استحسانا عشره بدل الخلع والنصف بالطلاق قبل الدخول والباقي بحكم الخلع . وإن سميا مالا آخر غير المهر ، فإن كان بعد الدخول والمهر مقبوض فله المسمى ليس غير ، وإن لم يكن مقبوضا فله المسمى وسقط عنه المهر بحكم الخلع ، وإن كان قبل الدخول والمهر مقبوض فله المسمى وسلم لها ما قبضت ولا يجب عليها رد شيء منه ، وإن لم يكن مقبوضا فله المسمى بالشرط وسقط عنه المهر بحكم الخلع .

إذا عرفت هذا جئنا إلى الخلافية ( وجه قول محمد رحمه الله أن هذه معاوضة ) وأثر [ ص: 235 ] المعاوضة ليس إلا في وجوب المسمى لا في إسقاط غيره وصار كما إذا وقع بلفظ الطلاق على مال ، ولذا لا يسقط دين آخر ولا نفقة العدة وإن كانت من آثار النكاح مع أن النفقة أضعف من المهر ( ولأبي يوسف أن المبارأة من البراءة فتقتضي البراءة من الجانبين وأنه مطلق ) في كل دين إلا أنا ( قيدناه بالواجب بالنكاح لدلالة الغرض ) فإن الغرض المبارأة من متعلقاته ، أما الخلع فإنما يقتضي فصلا وانخلاعا ، وحقيقته تتحقق في حق النكاح غير متوقفة على سقوط المهر .

ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن الخلع صلح وضعا شرعا لقطع المنازعة الكائنة بسبب النشوز الكائن بسبب الوصلة القائمة بينهما بسبب النكاح ، فتمام تحقق مقصوده بجعله مسقطا لما وجب بسبب تلك الوصلة فيسقط المهر وإلا عاد على موضوعه بالنقص لأن لفظه ولفظ المبارأة يفيد إطلاقهما ذلك في المبارأة كما قال أبو يوسف ، ولفظ الخلع يفيد انخلاع كل منهما عن الآخر دون أحدهما بعينه ، فإنه إذا انخلع أحدهما عن الآخر على وجه الكمال بأن ينخلع من كل وجه انخلع الآخر كذلك ، وثبوته على هذا الوجه بسقوط مطالبة كل منهما الآخر بمواجب النكاح ، بخلاف لفظ الطلاق فإنه ليس فيه ما يدل على سقوط الحقوق الواجبة بالنكاح .

على أن رواية الحسن عن أبي حنيفة أن الطلاق على مال كالخلع يسقط به ما يسقط بالخلع ، وبخلاف دين آخر لأن شرعية الخلع لقطع النزاع الحاصل بسبب وصلة النكاح لا مطلقا ، وبخلاف نفقة العدة فإنها ليست من مواجب النكاح ، بل يحدث وجوب تعلقها بعده حتى لو شرطا سقوطها في الخلع سقطت باعتبار ما تستحقه وقت الخلع ، والباقي سقط تبعا في ضمن الخلع ، أما لو لم تسقطها حتى انخلعت ثم أسقطت لا تسقط لإسقاطها حينئذ قصدا لما لم يجب ، فإنها إنما تجب شيئا فشيئا بخلاف ذلك الإسقاط الضمني ، وأما السكنى فلما كانت في غير بيت الطلاق معصية لا يصح إسقاطها بحال إلا إن أبرأته عن مئونة السكنى بأن كانت ساكنة في بيت نفسها ، أو أنها تعطى الأجرة من مالها فإنه يصح حينئذ التزامها ذلك .

وفي القنية : الإبراء وجد بعد وجود سبب النفقة فيصح وإن لم تكن واجبة عنده . قيل ما سبق هو الصحيح ، وما ذكره في القنية يبطل بالإبراء بعد الخلع فإنه لا يصح ، لكن في الينابيع : لو [ ص: 236 ] أبرأته عن نفقة العدة بعد الخلع صح ، قال : هكذا ذكره الطحاوي انتهى . بخلاف الإبراء منها حال قيام النكاح لأن الإبراء من النفقة المستقبلة لا يصح .

هذا ولقائل أن يقول : الوجه الأول يقتضي سقوط المهر بالطلاق على مال ، والثاني يوجب كون لفظ الطلاق مطلقا مسقطا له لأنه يفيد انطلاقها : أي المرأة ، وانطلاقها عن الزوج يوجب مثله في حقه ، وتحقق حقيقة انطلاق كل منهما عن الآخر على الكمال يقطع مطالبة كل الآخر بمواجب النكاح كما قلنا في الخلع بعينه . فالذي يظهر من جهة الدليل ترجيح الوجه الأول ، والتزام رواية الحسن عن أبي حنيفة في الطلاق على مال أنه أيضا يسقط المهر كالخلع وإلا فالحال ما علمت .

ولو كان الخلع بلفظ البيع والشراء : أي بأن قال بعتك نفسك بألف فقالت اشتريت اختلف المشايخ في أنه على قول أبي حنيفة رضي الله عنه كالخلع والمبارأة أولا ؟ وصحح في الفتاوى الصغرى أنه كالخلع والمبارأة ، وترجيح قول محمد رحمه الله تعالى بأنه عقد معاوضة فلا يزداد على ما تراضيا عليه ، واللفظ وإن كان ينبئ عن الفصل فالفصل وجد على مقدار رضيا به فكيف يسقط غيره ذهول عن التحقيق ، فإنه إذا أنبأ عن الانفصال في متعلقات النكاح واقتضى ذلك أن تسقط مطالبة كل الآخر بالمهر ثم وقع التراضي على إثباته بمال فقد وقع التراضي على إثبات سقوط ملك النكاح والمهر بذلك المال فيثبت بمقتضاه مع ذلك المال بالضرورة .

[ تنبيه ]

لا يسقط المهر بخلع الأجنبي بمال نفسه لأنه لا ولاية للأجنبي في إسقاط حقها ، ذكره شمس الأئمة وكذا الأمة إذا اختلعت من زوجها بغير إذن المولى يقع الطلاق ولا يسقط المهر ، بخلاف ما إذا كان بإذنه فيسقط وتباع في بدل الخلع ، وفيما إذا كان بغير إذنه لا تطالب به إلا بعد العتق ، وأم الولد والمدبرة في الإذن يؤديان من كسبهما .



[ فروع ]

إذا شرطا بدلا للخلع البراءة من نفقة الولد وهي مئونة الرضاع إن وقتا لذلك وقتا كسنة مثلا صح ولزم وإلا لا يصح . وفي المنتقى : إن كان الولد رضيعا صح وإن لم يبين المدة وترضع حولين ا هـ . بخلاف الفطيم .

وفي الخلاصة : امرأة اختلعت من زوجها على مهرها ونفقة عدتها وعلى أن تمسك ولدها منه ثلاث سنين أو عشرا بنفقته صح الخلع ويجب ذلك ، وإن كان مجهولا : يعني قدر النفقة ، وهذا لما علمت أن الجهالة غير المتفاحشة متحملة في الخلع ، فإن تركته على زوجها وهربت فللزوج أن يأخذ قيمة النفقة منها ، ولها أن تطالبه بكسوة الصبي إلا إن اختلعت على نفقته وكسوته فليس لها المطالبة وإن كانت الكسوة مجهولة ، وسواء كان الولد رضيعا أو فطيما ، ولو اختلعت على دراهم ثم استأجرها ببدل الخلع على إرضاع الرضيع جاز ، ولو استأجرها به على إمساك الفطيم بنفقته وكسوته لا يجوز وفي المحيط : ذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله تعالى في امرأة اختلعت من زوجها بمالها عليه من المهر وبرضاع ولده الذي هي حامل به إذا ولدته إلى سنتين جاز ، فإن مات أو لم يكن في بطنها ولد ترد قيمة الرضاع ، ولو مات بعد سنة ترد قيمة رضاع سنة ، وكذا إذا ماتت هي عليها قيمته انتهى .

ولو كانت قالت عشر سنين رجع عليها بأجرة رضاع سنتين ونفقة باقي السنين إلا أن قالت عند الخلع إن مات أو مت فلا شيء علي فهو على ما شرطت قاله أبو يوسف . ولو اختلعت على أن تمسكه إلى وقت البلوغ صح في الأنثى [ ص: 237 ] لا الغلام ، وإذا تزوجت فللزوج أن يأخذ الولد ولا يتركه عندها ، وإن اتفقا على ذلك لأن هذا حق الولد ، وينظر إلى مثل إمساك الولد في تلك المدة فيرجع به عليها .

ولو اختلعت على إرضاعه ثم صالحت الزوج على شيء يصح ، ولو خالعته على نفقة ولده عشرا وهي معسرة فطالبته بنفقته يجبر عليها وما شرط حق عليها ، وعليه الاعتماد لا على ما أفتاه بعضهم من سقوط النفقة ، ولو خالعها بمالها عليه من المهر ثم تذكر أنه لم يبق عليه شيء من المهر وقع ووجب عليها رد المهر ، ومثله لو خالعها على عبدها الذي لها عنده أو متاعها ثم ظهر أن ليس في يده شيء وقع على مهرها ، فإن لم تكن قبضته سقط .

وإن قبضته ردته أو مثله أو قيمته ولو خالعها بمهرها وهو يعلم أن ليس لها عليه مهر وقع بائنا مجانا ، ولو كان طلقها بمهرها فقبلت والزوج يعلم أنه لا مهر لها وقع رجعيا مجانا .




الخدمات العلمية