الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 260 ] ( ولا تجزئ العمياء ولا المقطوعة اليدين أو الرجلين ) لأن الفائت جنس المنفعة وهو البصر أو البطش أو المشي وهو المانع ، أما إذا اختلت المنفعة فهو غير مانع ، حتى يجوز العوراء ومقطوعة إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف لأنه ما فات جنس المنفعة بل اختلت ، بخلاف ما إذا كانتا مقطوعتين من جانب واحد حيث لا يجوز لفوات جنس منفعة المشي إذ هو عليه متعذر ، ويجوز الأصم . والقياس أن لا يجوز وهو رواية النوادر ، لأن الفائت جنس المنفعة ، إلا أنا استحسنا الجواز لأن أصل المنفعة باق ، فإنه إذا صيح عليه سمع حتى لو كان بحال لا يسمع أصلا بأن ولد أصم وهو الأخرس لا يجزيه ( ولا يجوز مقطوع إبهامي اليدين ) لأن قوة البطش بهما فبفواتهما يفوت جنس المنفعة ( ولا يجوز المجنون الذي لا يعقل ) لأن الانتفاع بالجوارح لا يكون إلا بالعقل

[ ص: 261 ] فكان فائت المنافع ( والذي يجن ويفيق يجزيه ) لأن الاختلال غير مانع ، ولا يجزئ عتق المدبر وأم الولد لاستحقاقهما الحرية بجهة فكان الرق فيهما ناقصا ، وكذا المكاتب الذي أدى بعض المال لأن إعتاقه يكون ببدل . وعن أبي حنيفة أنه يجزيه لقيام الرق من كل وجه ، ولهذا تقبل الكتابة الانفساخ ، بخلاف أمومية الولد والتدبير لأنهما لا يحتملان الانفساخ ، فإن أعتق مكاتبا لم يؤد شيئا جاز خلافا للشافعي . له أنه استحق الحرية بجهة الكتابة فأشبه المدبر . ولنا أن الرق قائم من كل وجه على ما بينا ، ولقوله عليه الصلاة والسلام " المكاتب عبد ما بقي عليه

[ ص: 262 ] درهم " والكتابة لا تنافيه فإنه فك الحجر بمنزلة الإذن في التجارة إلا أنه بعوض فيلزم من جانبه ، ولو كان مانعا ينفسخ مقتضى الإعتاق إذ هو يحتمله ، إلا أنه تسلم له الأكساب والأولاد لأن العتق في حق المحل

[ ص: 263 ] بجهة الكتابة ، أو لأن الفسخ ضروري لا يظهر في حق الولد والكسب

التالي السابق


( قوله ولا تجزئ العمياء إلخ ) الأصل أن يكون المعتق كامل الرق مقرونا [ ص: 261 ] بالنية ، وجنس ما يبتغي من المنافع بلا بدل ، فظهر أن اختلال جنس المنفعة لا يضر ولا ثبوت العيب ، وهذا لأن بفوات الجنس المنفعة تصير الرقبة فائتة من وجه بخلاف نقصانها ، ولم يعتبروا فوات الزينة على الكمال مع أنهم اعتبروه في الديات فألزموا بقطع الأذنين الشاخصتين تمام الدية ، وجوزوا هنا عتق مقطوعهما إذا كان السمع باقيا ، ومثله فيمن حلقت لحيته فلم تنبت لفساد المنبت ، وما عللوا به في جعل العنين والخصي والمجبوب من الفائت منفعة النسل وهو زائد على ما يطلب من المماليك يعلل به في فوات الزينة على الكمال ، لأن باعتبار ذلك لا يصير المرقوق هالكا من وجه بل الحر ، فعن هذا افترق الحال بين الإعتاق والدية فيه ، وتجوز الرتقاء والقرناء والعوراء والعمشاء والغشواء والبرصاء والرمداء والخنثى ، لا مقطوع اليد أو الرجلين أو إحدى كل من اليدين والرجلين من جهة واحدة ، ويجوز من خلاف .

أما مقطوع إبهامي اليدين فلما في الكتاب ، ومثله مقطوع ثلاث أصابع غير الإبهامين من كل يد لأن الأكثر كالكل ويجوز مقطوع إصبعين غير الإبهام من كل يد لا ساقط الأسنان العاجز عن الأكل ، ولا يجوز المجنون المطبق لأن المنافع كلها في حقه فائتة لأن الانتفاع بها إنما هو بالعقل وأما الذي يجن ويفيق فيجزي عتقه أطلقه في الهداية والمراد إذا أعتقه في حال إفاقته وفي الأصم روايتان ، وما ذكر في الهداية يؤخذ منه التوفيق بين الروايتين ، فمحمل رواية النوادر : الأصم الذي ولد أصم وهو الأخرس فإنه لا يسمع أصلا ولا يتكلم ، ومحمل ظاهر الرواية الذي إذا صيح عليه يسمع .

وروى إبراهيم عن محمد : إذا أعتق عبدا حلال الدم قضي بدمه عن ظهاره ثم عفى عنه لم يجز .

وفي التجنيس : من علامة عيون المسائل إذا أعتق عبدا مريضا عن ظهاره إن كان يرجى ويخاف عليه يجوز ، وإن كان لا يرجى لا يجوز لأنه ميت معنى هذا وقد منع فوات لزوم جنس المنفعة بقطع الإبهامين بل اللازم اختلالها ولو لزم ذلك لوجب بقطعهما دية كاملة ، لكن الشارع لم يعتبرهما إلا كغيرهما من الأصابع ، وأيضا رتب على الدليل نتيجة لا يستلزمها ، وذلك أن فوات قوة البطش ليست لازمة ولا عنه فوات جنس المنفعة بل ضعفها ( ولا يجوز عتق المدبر وأم الولد ) ويجوز إعتاق المكاتب الذي لم يؤد شيئا لا الذي أدى بعض الكتابة والشافعي منعه ، وألحق المكاتب بالمدبر وأم الولد بجامع أنه استحق العتق بجهة الكتابة فأشبه المدبر وأم الولد فنقص الرق فيه كما نقص فيهما بل هو أولى بعدم الإجزاء منهما ، فإنه لو قال كل مملوك في حر عتق مدبره وأم ولده ، ولا يعتق مكاتبه إلا بالنية فدل أنه أنقص رقا منهما وبهذا يبطل قولكم الكتابة إنما [ ص: 262 ] اقتضت فك الحجر لا غير كالإذن في التجارة ، ولو صح ذلك لاستبد المولى بفسخها كالمنع من التجارة .

وهذا كله على وجه الإلزام لنا في المدبر ، فإن عنده بيع المدبر وإعتاقه جائز ، وهو مذهب أحمد بناء على جواز بيعه عندهما خلافا لنا ، وفي أم الولد على وجه الإثبات لنفسه ، ونحن نمنع أن استحقاق العتق بجهة تقبل الفسخ على تقدير تحققها يوجب نقصان الرق ، فإن ذلك معنى التعليق وهو الحاصل هنا ، فإن حاصل الكتابة تعليق العتق بالأداء ، ولو علق بسائر الشروط لم يلزم نقصان الرق فهذا أولى لأن سائر التعليقات لا تحتمل الانفساخ بخلاف هذا ، ولولا ثبوت النص المفيد لامتناع بيع المدبر وأم الولد لم يتبين نقصان الرق فيهما لأن الحاصل فيهما أيضا تعليق العتق بموت السيد .

ولو تمكن نقصان في رقه لما تصور فسخه وإعادته إلى الحالة الأولى ، لأن نقصان الرق بثبوت العتق بقدره وثبوته من وجه لا يحتمل الزوال كثبوته من كل وجه ، وهذا ما يقال حق العتق كحقيقته ، وهذا هو الثابت في المدبر وأم الولد لثبوت العتق في حقهما بجهة لازمة ، فظهر أن الكتابة إنما أوجبت فك الحجر في المكاسب ، وذا لا يمكن نقصانا في الرق إذ المكاسب غير الرقبة ، وبه يعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم { المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء } رواه أبو داود .

المراد به كامل في العبودية والرق ، وإنما يستبد المولى بفسخه لأنه ببدل فانعقد لازما على المولى ، بخلاف الإذن في التجارة لأنه فك بلا بدل وعدم عتق المكاتب في كل مملوك له حر لنقصان الملك فيه فلا يدخل إلا بالنية ، لكن نقصان الملك لا يستلزم نقصان الرق لأن محل الملك أعم من محل الرق ، ألا يرى أن الملك يثبت فيما لا يتصور ثبوت الرق فيه كالأمتعة ، والحيوان غير الآدمي ، ففي العبد رق في رقبته وملك يحاذيه فيها ويتعدى إلى غيرها من منافعه وأكسابه والكتابة أوجبت الفك في حق ما يزيد على الرقبة وهو محل الملك لا الرق فنقص بها الملك لا الرق ، ولكن العتق إنما يعتمد الرق لأنه لو دار مع الملك ثبت في غير الآدمي أيضا فكان حينئذ كشرع السائبة ولا موجب لنقصانه فيبقى على ما كان عليه لعدم المزحزح .

( قوله إلا أنه يسلم له الأكساب إلخ ) جواب عما قد يقال عتقه حيث وقع إنما يقع شرعا بجهة الكتابة وإن عين السيد جهة التكفير بدليل أنه يسلم له الأكساب والأولاد ، فعلم أنه بجهة الكتابة أجاب بوجهين : الأول أن العتق في المكاتب واحد [ ص: 263 ] والإعتاق من جانب المولى تختلف جهاته ، ففيما يرجع إلى حق المكاتب جعل هذا ذلك العتق لكونه متحدا ، وفيما يرجع إلى المولى جعل إعتاقا بجهة الكفارة لأنه قصد ذلك ، وهو كالمرأة إذا وهبت الصداق للزوج قبل القبض ثم طلقها قبل الدخول لا يرجع عليها بشيء وجعل هبتها في حق الزوج تحصيلا لمقصود الزوج عند الطلاق ، وفي حقها يجعل تمليكا بهبة مبتدأة ، وحقيقة الجامع بينهما إذا حصل عين المقصود فلا يبالي باختلاف السبب ، ففي مسألة الزوج نفس حقه ليس إلا براءة ذمته عن نصف الصداق وقد حصل فلا يبالى بكونه عن سبب آخر غير الطلاق ، وكذلك هنا عين حق المكاتب ليس إلا عتقه عند الأداء وقد حصل عينه .

الثاني : انفساخ الكتابة ضروري ، إذ هو ضرورة تصحيح عتقه عن الكفارة لأنه تصرف من عاقل مسلم فيما فيه مانع يحتمل الفسخ ، والثابت بالضرورة يتقدر بقدرها فيظهر في حق جواز التحرير للتكفير لا في حق الأكساب والأولاد لأنه لا دلالة على الرضا فيهما فيعتق في حقهما مكاتبا فتسلم له ، ولا يلزم من كونه عتق مكاتبا كون عتقه بجهة الكتابة وإلا لتقرر بدل الكتابة إذ تسليم المبدل يوجب تقرر البدل




الخدمات العلمية