الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فإن كنت تدفع هذه الآثار بجهلك فما تصنع في القرآن؟! وكيف تحتال له وهو من أوله إلى آخره ناقض لمذهبك، ومكذب لدعواك، حتى بلغني عنك من غير رواية لمعارض أنك قلت: ما شيء أنقض لدعوانا من القرآن غير أنه لا سبيل لدفعه إلا مكابرة بالتأويل، وهذا أيضا باطل من وجوه:

أحدها: أن في حديث أبي سعيد المتفق عليه: «فيأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة» وفي لفظ: «في أدنى صورة من التي رأوه فيها» وهذا يفسر قوله في حديث [ ص: 142 ] أبي هريرة: «فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون» ويبين أن تلك المعرفة كانت لرؤية منهم متقدمة في صورة غير الصورة التي أنكروه فيها، وفي هذا التفسير قد جعل صورته التي يعرفون هي التي عرفهم صفاتها في الدنيا، وليس الأمر كذلك لأنه أخبر أنها الصورة التي رأوه فيها أول مرة، لا أنهم عرفوها بالنعت في الدنيا، ولفظ الرؤية صريح في ذلك، وقد بينا أنه في غير حديث مما يبين أنهم رأوه قبل هذه المرة.

الوجه الثاني: أنهم لا يعرفون في الدنيا لله صورة ولم يروه في الدنيا في صورة، فإن ما وصف الله تعالى به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب لهم صورة يعرفونها؛ ولهذا جاء في حديث آخر أنه «ليس كمثله شيء» فلو كانوا أرادوا الصفات المخبر بها في الدنيا لذكروا ذلك، فعلم أنهم لم يطيقوا وصف الصورة التي رأوه فيها أول مرة، وقد قال النبي في سدرة المنتهى «فغشيها من أمر الله ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن [ ص: 143 ] ينعتها من حسنها».

فالله أعظم من أن يستطيع أحد أن ينعت صورته، وهو سبحانه وصف نفسه لعباده بقدر ما تحتمله أفهامهم، ومعلوم أن قدرتهم على معرفة الجنة بالصفات أيسر ومع هذا فقد قال: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» فالخالق أولى أن يكونوا لا يطيقون معرفة صفاته كلها.

الوجه الثالث: أن في حديث أبي سعيد «فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة» فقوله: لا يتحول من صورة إلى صورة، ولكن يمثل ذلك في أعينهم [ ص: 144 ] مخالفة لهذا النص.

الوجه الرابع: أن في حديث ابن مسعود وأبي هريرة من طريق العلاء «أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون» وفي لفظ: «أشباه ما كانوا يعبدون» ثم قال: يبقى محمد وأمته، فيتمثل لهم الرب تبارك وتعالى فيأتيهم فيقول: «ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلها ما رأيناه بعد» فقد أخبر أن الله تعالى هو الذي تمثل لهم ولم يقل: مثل لهم، كما قال في معبودات المشركين وأهل الكتاب.

الوجه الخامس: أن في عدة أحاديث كحديث أبي سعيد وابن مسعود قال: «هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فيسجدون له».

وهذا يبين أنهم لم يعرفوه بالصفة التي وصف لهم في الدنيا بل بآية وعلامة عرفوها في الموقف، وكذلك في حديث [ ص: 145 ] جابر قال: «فيتجلى لنا يضحك» ومعلوم أنه وإن وصف في الدنيا بالضحك فذاك لا يعرف صورته بغير المعاينة.

الوجه السادس: أن تمثيله ذلك بقوله: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا [الأنفال 44] وبقوله: شبه لهم [النساء: 157] لا يناسب تشبيهه بمجيء جبريل في صورة دحية والبشر؛ وذلك أن اليهود غلطوا في الذي رأوه فلم يكن هو المسيح، ولكن ألقى شبهه عليه، والذي رأته مريم ومحمد صلى الله عليه وسلم هو جبريل نفسه ولكن في صورة آدمي، فكيف يقاس ما رئي هو نفسه في صورة على ما لم ير هو، وإنما ألقي شبهه على غيره، وأما التقليل والتكثير في أعينهم بالمقدار ليس هو في نفس المرئي ولكن هو صفة المرئي. [ ص: 146 ]

الوجه السابع: أن هذا المعنى إذا قصد كان مقيدا بالرائي لا بالمرئي، مثل قوله: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا [الأنفال: 44] فقيد ذلك بأعين الرائين، يقال: كان هذا في عين فلان رجلا فظهر امرأة، وكان كبيرا فظهر صغيرا، ونحو ذلك، لا يقال: جاء فلان في صورة كذا ثم تحول في صورة كذا، ويكون التصوير في عين الرائي فقط، هذا لا يقال في مثل هذا أصلا.

فإن قيل: فما الفرق بين ما جاء في الحديث وبين القول الذي نقله الأشعري وغيره في مقالات أهل الكلام عن البكرية أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد لما ذكر اختلافهم في الرؤية [ ص: 147 ] فقال: «وقالت البكرية: إن الله يخلق صورة يوم القيامة يرى فيها، ويكلم خلقه منها».

قيل: هؤلاء عندهم أن الله نفسه لا يرى، ولا يكلم عباده ولكن يخلق صورة فيرى فيها، ويكلم خلقه فيها، ومعلوم أن هذا ليس هو معنى الحديث؛ وذلك أن هؤلاء لما رأوا بقياس عقولهم أنه لا يرى ورأوا النصوص قد جاءت برؤيته اختلفوا في ذلك على أقوال:

قال الأشعري: «وقال قائلون منهم ضرار بن عمرو وحفص الفرد: إن الله لا يرى بالأبصار، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا هذا فندركه بها، وندرك ما هو بتلك الحاسة».

[ ص: 148 ] قلت: وهذا في رؤيته نظير ما يقوله طائفة من الكلابية والأشعرية أن كلامه لا يسمع بهذه الحاسة، ولكن يخلق في العبد لطيفة، أو يقولون: حاسة، أخرى يسمع بها كلامه، وهذا قول من يجوز منهم سماع كلامه، وآخرون منهم لا يجوزون سماع كلامه كما أن في أولئك من لا يجوز رؤيته بحال.

[ ص: 149 ] قال الأشعري: «وقالت البكرية: إن الله يخلق صورة يوم القيامة يرى فيها، ويكلم خلقه فيها، وقال الحسين النجار: إنه يجوز أن الله تعالى يحول العين إلى القلب، ويجعل لنا قوة العلم، فيعلم بها، ويكون العلم رؤية له، أي علما له».

وقد ذهب إلى نحو هذه التأويلات طائفة من الصفاتية من الأشعرية المتأخرين ونحوهم، كما يذكر في موضعه [ ص: 150 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية