الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        36228 - قال مالك في الذي يستعير العارية فيجحدها : إنه ليس عليه قطع ، وإنما مثل ذلك مثل رجل كان له على رجل دين فجحده ذلك ، فليس عليه فيما جحده قطع .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        36229 - قال أبو عمر : جمهور الفقهاء على ما قاله مالك في المستعير الجاحد ، أنه لا قطع عليه .

                                                                                                                        [ ص: 245 ] 36230 - وهو قول أهل الحجاز ، والعراق ، وأهل الشام ، ومصر .

                                                                                                                        36231 - وقال أحمد بن حنبل ، وإسحاق : يقطع .

                                                                                                                        36232 - قال أحمد : لا أعلم شيئا يدفع حديث عائشة في ذلك .

                                                                                                                        36233 - قال أبو عمر : احتج من قال بهذا بحديث رواه معمر ، ذكره عبد الرزاق ، وغيره ، عن معمر أنه أخبرهم عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع ، وتجحده ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها ، فأتى أهلها أسامة فكلموه ، فكلم أسامة النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أسامة ، ألا أراك تتكلم في حد من حدود الله عز وجل " . ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا ، فقال : " إنما أهلك من كان قبلكم ؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإن سرق فيهم الضعيف قطعوه ، والذي نفسي بيده ، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " .

                                                                                                                        فقطع يد المخزومية .

                                                                                                                        [ ص: 246 ] 36234 - قال أبو عمر : احتج من قال بهذا الحديث بما فيه من قوله : كانت تستعير المتاع ، وتجحده ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .

                                                                                                                        36235 - قالوا : فالظاهر أنه لم يقطع يدها إلا لأنها كانت تستعير المتاع ، [ ص: 247 ] وتجحده .

                                                                                                                        36236 - قالوا : قد تابعه معمر على ما ذكرناه من ذلك ، ابن أخي الزهري ، وغيره ، وحسبك بمعمر في الزهري .

                                                                                                                        36237 - قالوا : وقد رواه ، عن نافع ، عن صفية بنت أبي عبيد ، أن امرأة كانت تستعير المتاع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتجحده ، ولا ترده ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعها .

                                                                                                                        36238 - ورواه معمر عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على جارتها ، وتجحده ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .

                                                                                                                        36239 - قال أبو عمر : من تدبر هذا الحديث علم أنه لم يقطع يدها إلا لأنها سرقت ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فيه لأسامة : " ألا أراك تتكلم في حد من حدود الله عز وجل .

                                                                                                                        36240 - وليس لله عز وجل في كتابه ، ولا في المعروف من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم [ ص: 248 ] حد من حدوده فيمن استعار المتاع ، وجحده .

                                                                                                                        36241 - ودليل آخر من الحدود من حديث أيضا ؛ قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه " .

                                                                                                                        36242 - وهذا يدل على أنه إنما قطعها ؛ لسرقتها ؛ لا لأنها كانت تستعير المتاع وتجحده ، ولو كان ذلك ؛ لقال صلى الله عليه وسلم : إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا استعار فيهم الشريف من المتاع ، وجحده تركوه .

                                                                                                                        36243 - هذا ما ظهر إلي من ظاهر لفظ هذا الحديث ، الذي احتج به من رأى قطع المستعير الجاحد .

                                                                                                                        36244 - وقد روى هذا الحديث الليث بن سعد ، عن الزهري بإسناده ، وقال فيه : إن المخزومية سرقت ، وقال في آخره : " والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " .

                                                                                                                        36245 - وهذا كله يوضح أن القطع إنما كان من أجل السرقة ، لا من أجل جحد العارية من المتاع .

                                                                                                                        36246 - ويحتمل - والله تعالى أعلم - أن تلك القرشية المخزومية كان من شأنها استعارة المتاع ، وجحده ، فعرفت بذلك ثم أنها سرقت ، فقيل : [ ص: 249 ] المخزومية التي كانت تستعير المتاع ، وتجحده قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدها ، يعنون : في السرقة ، والله أعلم .

                                                                                                                        36247 - حدثني عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني عبيد الله بن يحيى ، قراءة عليه ، عن أبيه يحيى بن يحيى ، عن الليث بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت ، قالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه أسامة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أتشفع في حد من حدود الله عز وجل ! ثم قام خطيبا ؛ فقال : " إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " .

                                                                                                                        36248 - وكذلك رواه أيوب بن موسى ، ويونس بن يزيد عن الزهري .

                                                                                                                        36249 - وذكره أبو عبد الرحمن النسائي ، قال : أخبرنا محمد بن منصور ، قال : حدثني أيوب ، عن يوسف بن موسى ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ، فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد ، وذكر الحديث بمعنى حديث الليث سواء .

                                                                                                                        [ ص: 250 ] 36250 - وقد حدثني عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، حدثني مطلب قراءة عليه ، قال : حدثني عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، أن خالته ابنة مسعود بن العجماء حدثته أن أباها قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المخزومية التي سرقت قطيفة .

                                                                                                                        36251 - وحدثني سعيد ، وعبد الوارث ، قالا : حدثني قاسم ، قالا : حدثني ابن وضاح ، قال : حدثني أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني ابن نمير ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن ركانة ، عن أمه ، عن عائشة بنت مسعود بن الأسود ، عن أبيها مسعود ، قال : لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك ، وكانت المرأة من قريش ، فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه فيها ، فقلنا : نحن نفديها بأربعين أوقية . قال : ( تطهر خير لها ) ؛ فلما سمعنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينا أسامة بن زيد ، فقلنا : كلم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرأة ، نحن نفديها بأربعين أوقية ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قام خطيبا ، فقال : ( يا أيها الناس ، ما اجتراكم علي في حد من حدود الله تعالي ، وقع [ ص: 251 ] على أمة من إماء الله عز وجل ، والذي نفسي بيده ، لو كانت فاطمة بنت رسول الله نزل بها الذي نزل بهذه لقطع محمد يدها ) .

                                                                                                                        36252 - فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المرأة المخزومية إنما قطعت للسرقة ، لا لاستعارة المتاع . وبالله التوفيق .




                                                                                                                        الخدمات العلمية