الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1552 1526 - مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ؛ أن رجلا من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق فقال له : إن الأخر زنى ، فقال له أبو بكر : هل ذكرت هذا لأحد غيري ؟ فقال : لا ، فقال له أبو بكر : فتب إلى الله ، واستتر بستر الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، فلم تقرره نفسه حتى أتى عمر بن الخطاب ، فقال له مثل ما قال لأبي بكر ، فقال [ ص: 22 ] [ له عمر مثل ما قال له أبو بكر ] فلم تقرره نفسه حتى جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له : إن الأخر زنى ، فقال سعيد : فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، كل ذلك يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا أكثر عليه ، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله فقال : " أيشتكي أم به جنة ؟ " فقالوا : يا رسول الله . والله إنه لصحيح ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبكر أم ثيب " ؟ فقالوا : بل ثيب يا رسول الله ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم .

                                                                                                                        1527 - مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من أسلم ، يقال له هزال " يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك " قال يحيى بن سعيد : فحدثت بهذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي . فقال يزيد : هزال جدي ، وهذا الحديث حق .

                                                                                                                        1528 - مالك عن ابن شهاب أنه أخبره أن رجلا اعترف على نفسه [ ص: 23 ] بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد على نفسه أربع مرات . فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم . قال ابن شهاب : فمن أجل ذلك يؤخذ الرجل باعترافه على نفسه .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        35172 - قال أبو عمر : أما الحديث الأول في هذا الباب ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن رجلا من أسلم - ولم يسم الرجل - فقد سماه فيه : يزيد بن هارون ، وغيره ممن روى عن يحيى بن سعيد ؛ قال يزيد بن هارون ، وغيره ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن ماعز بن مالك الأسلمي ، أتى إلى أبي بكر الصديق ، فأخبره أنه زنى ، فقال له أبو بكر : هل ذكرت ذلك لأحد غيري ؟ . قال : لا . فقال له أبو بكر : استتر بستر الله وتب إلى الله تعالى ، فإن الناس يعيرون ولا يغيرون ، وأما الله - عز وجل - يقبل التوبة عن عباده .

                                                                                                                        35173 - قال أبو عمر : هو ماعز بن مالك الأسلمي ، لا خلاف بين العلماء في ذلك ، وقد تكررت الآثار المروية في قصته بذلك .

                                                                                                                        35174 - وقد روي معنى حديث مالك هذا متصلا من وجوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرنا بعضها في " التمهيد " ، ونذكر منها ما حضرنا في هذا الباب إن شاء الله عز [ ص: 24 ] وجل .

                                                                                                                        35175 - وروى ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن رجلا من أسلم أتى عمر ، فقال : إن الأخر زنى ، فقال تب إلى الله تعالى ، واستتر بستر الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، وإن الناس يعيرون ولا يغيرون . فلم تدعه نفسه حتى أتى أبا بكر ، فقال له مثل ذلك ، فقال له قول عمر ، ورد عليه مثل ما رد عليه عمر ، فلم تدعه نفسه حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له ، فأعرض عنه ، فأتاه من الشق الآخر فأعرض عنه ، فأتاه من الشق الآخر فذكر له ذلك ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه فسألهم عنه : " أبه جنون ؟ أبه ريح ؟ " فقالوا : لا ، فأمر به فرجم .

                                                                                                                        35176 - قال يحيى بن سعيد ، عن نعيم بن عبد الله بن هزال ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهزال : " لو سترته بثوبك ، كان خيرا لك " . قال : وهزال كان أمره أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخبره .

                                                                                                                        35177 - ذكره عبد الرزاق ، عن ابن عيينة .

                                                                                                                        35178 - قال : وقال ابن عيينة ، قال : وأخبرني عبد الله بن دينار ، قال : قام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ، فقال : " أيها الناس ، اجتنبوا هذه القاذورة التي نهاكم الله عنها ، ومن أصاب من ذلك شيئا ، فليستتر " .

                                                                                                                        [ ص: 25 ] 35179 - وفي هذا الحديث من الفقه : أن ستر المسلم على نفسه ما وقع فيه من الكبائر الموجبة للحدود ، والتوبة منها ، والندم عليها ، والإقلاع عنها ، أولى به من الإقرار بذلك على نفسه .

                                                                                                                        35180 - ألا ترى أن أبا بكر ، أشار بذلك على الرجل الذي اعترف عنده بالزنا ، وكذلك فعل عمر - رضي الله عنهما - .

                                                                                                                        35181 - وهو ماعز الأسلمي ، لا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، وذلك مشهور في الآثار .

                                                                                                                        35182 - وكذلك إعراض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه حين أقر على نفسه بالزنا ، حتى أكثر عليه كان - والله أعلم - رجاء ألا يتمادى في الإقرار ، وأن ينتبه ، ويرعوي ، ثم ينصرف ، فيعقد التوبة مما وقع فيه .

                                                                                                                        35183 - هذا مذهب من قال : إن الاعتراف بالزنا مرة واحدة يكفي .

                                                                                                                        35184 - وأما من قال : إنه لا بد من إقراره أربع مرات ؛ فقالوا : إنما أعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتم إقراره عنده .

                                                                                                                        35185 - وليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كغيره ؛ لأنه كان إليه إقامة الحدود لله تعالى ، ومن كان ذلك إليه ، لم يكن له - إذا بلغه ، وثبت عنده ما يوجبها - إلا إقامتها ، ولم يكن أبو بكر ، ولا عمر ، في ذلك الوقت كذلك .

                                                                                                                        35186 - وسنذكر اختلاف الفقهاء في حكم إقرار المعترف في الزنا ، وهل [ ص: 26 ] يحتاج إلى تكرار الإقرار ، أم لا ، في حديث ابن شهاب بعد هذا ، في هذا الباب إن شاء الله .

                                                                                                                        35187 - ويدلك أن الستر واجب من المؤمن على المؤمن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " تعافوا الحدود فيما بينكم ، فإنه إذا بلغني ذلك ، فلا عفو " ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لهزال الأسلمي : " يا هزال لو سترته بردائك ، لكان خيرا لك " .

                                                                                                                        وكان هزال قد أمره أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيعترف عنده بما وقع منه ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول ، معرفا له أن ستره عليه كان أفضل وأولى به ، وإذا كان ستر المسلم على المسلم مندوبا إليه ، مرغوبا فيه ، فستر المرء على نفسه ، أولى به ، وعليه التوبة مما وقع فيه .

                                                                                                                        35188 - ويدلك أيضا على ما وصفت لك ، قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أيشتكي ؟ أبه جنة ؟ " فيقول : أمجنون هو يبلغ نفسه إلى الموت ، وهو يمكنه أن يتوب ويستغفر الله تعالى ولا يعود ، فإن الله تعالى يقبل عن عباده ، ويحب التوابين .

                                                                                                                        35189 - وأما قوله : إن الأخر زنى ، فالرواية فيه بكسر الخاء ، على وزن فعل [ ص: 27 ] عند أهل اللغة .

                                                                                                                        35190 - والمعنى فيه : إن البائس الشقي زنى ، كما تقول : الأبعد زنى ، قال ذلك توبيخا لنفسه .

                                                                                                                        35191 - قال أهل اللغة ، في قول قيس بن عاصم : المسألة أخر كسب الرجل : أي أرذل كسب الرجل .

                                                                                                                        35192 - حدثني محمد بن عبد الله بن حكم ، قال : حدثني محمد بن معاوية بن عبد الرحمن ، قال : حدثني إسحاق بن أبي حسان ، قال حدثني هشام بن عمار ، قال : حدثني عبد الحميد بن حبيب ، قال : حدثني الأوزاعي ، قال : أخبرني عثمان بن أبي سودة ، قال : حدثني من سمع عبادة بن الصامت يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عز وجل - ليستر العبد من الذنب ، ما لم يخرقه " . قالوا : وكيف يخرقه ؟ . قال : " يحدث به الناس " .

                                                                                                                        35193 - حدثني خلف بن قاسم ، قال : حدثني قاسم بن عبد الرحمن أبو عيسى الأسواني ، قال : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، قال : حدثني سفيان بن وكيع بن الجراح ، قال : حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إن ماعزا أقر على نفسه بالزنا ، عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن أقررت الرابعة ، أقمت عليك الحد " ، فأقر [ ص: 28 ] عنده الرابعة ، فأمر به فحبس ثم سأل عنه ، فذكروا خيرا ، فرجم .

                                                                                                                        35194 - وهذا حديث حسن ، إلا أن جابرا الجعفي يتكلمون فيه ، وأجمعوا على أن يكتب حديثه ، واختلفوا في الاحتجاج به ؛ فكان يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، لا يحدثان عنه ، وكان أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، يضعفانه ، وكان شعبة بن الحجاج ، وسفيان الثوري ، يشهدان له بالحفظ والإتقان ، وكان وكيع ، وزهير بن معاوية يوثقانه ، ويثنيان عليه ، قال وكيع : مهما شككتم ، فلا تشكوا ، فإن جابرا الجعفي ثقة .

                                                                                                                        35195 - وأما حديث مالك ، في هذا الباب ، عن ابن شهاب ، مرسلا فرواه معمر ، ويونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، أن رجلا من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم . الحديث .

                                                                                                                        35196 - ورواه شعيب بن أبي حمزة ، وعقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن ماعزا الأسلمي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعترف عنده بالزنا ، فرده أربع مرات ، وذكر الحديث .

                                                                                                                        35197 - قال ابن شهاب : وحدثني من سمع جابر بن عبد الله ، يقول : كنت فيمن رجمه ، فلما أذلقته الحجارة هرب ، فأدركناه بالحرة ، فرجمناه .

                                                                                                                        [ ص: 29 ] 35198 - وقد ذكرنا طرق حديث ابن شهاب ، وألفاظ ناقديه بالأسانيد ، في كتاب " التمهيد " .

                                                                                                                        35199 - وقد روى حديث ماعز ، في قصة اعترافه بالزنا ، ورجمه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس .

                                                                                                                        35200 - وروى حديثه أيضا من وجوه جابر بن عبد الله ، وجابر بن سمرة ، وسهل بن سعد ، ونعيم بن هزال ، وأبو سعيد الخدري ، وفي أكثرها أنه اعترف أربع مرات ، وفي بعضها مرتين ، وفي بعضها ثلاث مرات ، وقد ذكرنا ذلك في " التمهيد " .

                                                                                                                        35201 - وفي رواية شعبة ، وإسرائيل ، وأبي عوانة ، عن سماك ، عن جابر بن سمرة أنه اعترف مرتين ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم .

                                                                                                                        35202 - واختلف الفقهاء ، في عدد الإقرار بالزنا .

                                                                                                                        [ ص: 30 ] 35203 - فقال مالك ، والشافعي ، والليث ، وعثمان البتي : إذا أقر مرة واحدة بالزنا ، حد .

                                                                                                                        35204 - وهو قول الحسن البصري ، وحماد الكوفي .

                                                                                                                        35205 - وبه قال أبو ثور ، وداود ، والطبري .

                                                                                                                        35206 - ومن حجتهم على من خالفهم ، أن الآثار مختلفة في إقرار ماعز ، وروي فيها أنه أقر مرة ، وروي أنه أقر مرتين ، وروي أنه أقر ثلاثا ، وروي أنه أقر أربع مرات ، وسقط الاحتجاج به .

                                                                                                                        35207 - وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة ، وزيد بن خالد : " واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت ، فارجمها " . ولم يقل : إن اعترفت أربع مرات ، وكل ما وقع عليه اعتراف ، وجب به الحد .

                                                                                                                        35208 - وقد أجمع العلماء ، على أن الإقرار في الأموال يجب مرة واحدة ؛ فدل ذلك على أنه لا يراعى عدد الشهود ؛ لأن الشهادة لا تصح بأقل من شاهدين .

                                                                                                                        35209 - وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن حي : لا يجب عليه الحد ، في الزنا ، حتى يقر أربع مرات .

                                                                                                                        [ ص: 31 ] 35210 - وهو قول الحكم بن عتيبة .

                                                                                                                        35211 - وبه قال أحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                        35212 - وقال أبو حنيفة وأصحابه أربع مرات ، في مجالس مفترقة .

                                                                                                                        35213 - وقال أبو يوسف ، ومحمد : يحد في الخمر بإقراره مرة واحدة .

                                                                                                                        35214 - وقال زفر : لا يحد في الخمر حتى يقر مرتين ، في موطنين .

                                                                                                                        35215 - وقال أبو حنيفة وزفر ، ومحمد : إذا أقر مرة واحدة ، في السرقة ، صح إقراره .

                                                                                                                        35216 - وقال أبو يوسف : حتى يقر مرتين .

                                                                                                                        35217 - قال أبو عمر : من حجتهم حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ماعزا حتى أقر أربع مرات ، ثم أمر برجمه .

                                                                                                                        35218 - وأحاديث كثيرة فيها الإقرار منه أربع مرات ، قد ذكرتها في " التمهيد " .

                                                                                                                        35219 - قالوا : وليس تقصير من قصر فيما حفظ غيره ، بحجة عليه .

                                                                                                                        35220 - ومن حفظ " أربع مرات " ، فقد زاد حفظه على حفظ غيره ، وشهادته أولى ؛ لأنه سمع ما لم يسمع غيره .

                                                                                                                        [ ص: 32 ] 35221 - وسنذكر ما يلزم من رجع عن إقراره بالزنا ، وأكذب نفسه ، وما للفقهاء من التنازع ، في باب من اعترف على نفسه بالزنا ، من هذا الكتاب إن شاء الله - عز وجل - .




                                                                                                                        الخدمات العلمية