الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1580 1557 - مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ؛ أن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا ، وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان ، فشفع له الزبير ليرسله ، فقال : لا حتى أبلغ به السلطان . فقال الزبير : إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        35923 - هذا خبر منقطع ، ويتصل من وجه صحيح .

                                                                                                                        35924 - قال أبو عمر : أدخل مالك خبر الزبير بيانا لحديث صفوان ؛ لأن السلطان لا يحل له أن يعطل حدا من الحدود التي لله عز وجل إقامتها عليه إذا بلغته ، كما ليس له أن يتجسس عليها ، إذا استترت عنه ، وبأن الشفاعة في [ ص: 177 ] ذوي الحدود حسنة جائزة ، وإن كانت الحدود فيها واجبة إذا لم تبلغ السلطان .

                                                                                                                        35925 - وهذا كله لا أعلم فيه خلافا بين العلماء ، وحسبك بذلك علما .

                                                                                                                        35926 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني وكيع وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي ، عن هشام بن عروة ، عن عبد الله بن عروة ، عن الفرافصة الحنفي ، قال : مروا على الزبير بسارق فشفع له . فقالوا : أتشفع للسارق ؟ قال : نعم ، ما لم يؤت به إلى الإمام . فإذا أتي به إلى الإمام فلا عفو له عنه إن عفا عنه .

                                                                                                                        35927 - وروى ابن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أخيه عبد الله بن عروة ، عن الفرافصة ، أن الزبير مر بلص قد أخذ ، فقال : دعوه ، اعفوا عنه . فقالوا : أتأمرنا بهذا يا أبا عبد الله ، وأنت صاحب رسول الله ! فقال : إن الحدود يعفى عنها ما لم تبلغ إلى السلطان ، فإذا رفعت إلى السلطان فلا عفا الله عنه إن عفي عنها .

                                                                                                                        35928 - قال أبو عمر : هذا تفسير قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان : " فهلا قبل أن تأتيني به " ، فإنه لم يهب الرداء إلا رجاء العفو عنه .

                                                                                                                        35929 - قال أبو بكر : وحدثني حميد ، عن هشام ، عن أبي حازم ، أن عليا شفع لسارق ، فقيل له : أتشفع لسارق ؟ ! قال : نعم ، إن ذلك ليفعل ما لم [ ص: 178 ] يبلغ الإمام .

                                                                                                                        35930 - وعن سعيد بن جبير ، وعطاء ، وجماعة من علماء التابعين مثل ذلك .

                                                                                                                        35931 - وروي عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان مثل ذلك .

                                                                                                                        35932 - والآثار في الستر على المسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة .

                                                                                                                        35933 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني أبو معاوية ، عن عاصم ، عن عكرمة ، أن ابن عباس ، وعمارا ، والزبير أخذوا سارقا فخلوا سبيله ، قال عكرمة : فقلت لابن عباس : بئس ما صنعتم حين خليتم سبيله ، فقال : لا أم لك أما لو كنت أنت لسرك أن يخلى سبيلك .

                                                                                                                        35934 - وهذا كله قبل أن يبلغ إلى السلطان ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله عز وجل في حكمه " .

                                                                                                                        [ ص: 179 ] 35935 - وذكره أبو بكر ، قال : حدثني عبدة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الوهاب ، عن ابن عمر .

                                                                                                                        35936 - قال : حدثني سعيد ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني محمد ، قال : حدثني أبو بكر ، قال : حدثني ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم في شيء ، فقال عليه الصلاة والسلام : " لو كانت فاطمة بنت محمد لأقمت عليها الحد " .

                                                                                                                        35937 - قال أبو عمر : في حديث ابن شهاب في هذا الباب في قصة رداء صفوان المسروق من تحت رأسه ، وهو قد توسده ، دليل على أن الحرز قد يكون بمثل ذلك من الفعل .

                                                                                                                        35938 - واتفق الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار وأتباعهم على مراعاة الحرز فيما يسرقه السارق ؛ فقالوا : ما سرقه السارق من غير حرز ، فلا قطع عليه ، بلغ المقدار الذي يجب فيه القطع أم لم يبلغ ؟ .

                                                                                                                        [ ص: 180 ] 35939 - وممن ذهب إلى هذا ؛ مالك ، والثوري ، والليث ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم .

                                                                                                                        35940 - وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم : " لا قطع في حريسة الجبل حتى يئويها المراح ، فإذا أواها المراح فالقطع على من سرق منها ثمن المجن " .

                                                                                                                        35941 - ورواه عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال علي بن المديني : حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة ؛ إذ رواه عن عمرو بن شعيب ثقة ، وأدرك أباه ، وأبوه شعيب أدرك عبد الله بن عمرو بن العاص .

                                                                                                                        35942 - وقال صلى الله عليه وسلم : " لا قطع على خائن ولا مختلس " .

                                                                                                                        [ ص: 181 ] 35943 - فلما كان الخائن لا يحترز منه علم أنه لم يكن في حرز ، فليس بسرقة يجب فيها القطع .

                                                                                                                        35944 - وأجمع العلماء ، أنه لا قطع على المضارب من مال مضاربه ، وكذلك المودع عنده الوديعة .

                                                                                                                        35945 - وقد اختلف الفقهاء في أبواب من معاني الحرز يطول ذكرها .

                                                                                                                        35946 - فجملة مذهب مالك ، والشافعي ، أن الحرز كل ما يحرز الناس به أموالهم ، إذا أرادوا التحفظ من سارق يسرقها ، وهو يختلف باختلاف الشيء المحروز ، واختلاف المواضع ، فإذا ضم المتاع في السوق ، وقعد صاحبه عليه فهو حرز له . سواء كان المتاع في ظرف فأخرجه السارق من ظرفه ، أو كان بحيث ينظر إليه صاحبه ، جاز ذلك .

                                                                                                                        35947 - وكذلك إبل القافلة ، ودواب الرفقة ، إذا قطر بعضها إلى بعض ، أو كانت غنما في مراحها أو متاعا في فسطاط ، أو خباء ، وعليه من يحفظه ، ونحو هذا مما يطول أوصافه .

                                                                                                                        35948 - ومعنى قول الشافعي ، ومالك في هذا الباب متقارب جدا .

                                                                                                                        35949 - وقد قال أهل الظاهر ، وطائفة من أهل الحديث : كل سارق سرق ربع دينار ذهبا ، أو قيمته من سائر الأشياء ، وجب عليه القطع ، من حرز أخذه أو من [ ص: 182 ] غير حرز إذا أخذه من ملك مالك لم يأتمنه عليه ؛ لأن الله عز وجل أمر بقطع السارق أمرا مطلقا ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم المقدار المقطوع فيه ، ولم يبين الحرز .

                                                                                                                        35950 - وتكلموا في الأحاديث التي ذكرناها ، وهي حجة عليهم لما وصفنا ، وما أعلم لهم في ترك مراعاة إخراج السرقة من حرزها إلا شيئا عن عائشة ، وابن الزبير ، ورواية عن الحسن قد روي عنه خلافها .

                                                                                                                        35951 - وجمهور أهل العلم على أن السارق لا قطع عليه ، إلا أن يسرق شيئا محروزا يخرجه من حرزه .

                                                                                                                        35952 - وعلى ذلك جماعة الفقهاء ؛ أئمة الفتوى بالأمصار .

                                                                                                                        35953 - واختلف العلماء في السارق يسرق ما يجب فيه القطع ، ويرفع إلى الإمام فيقر ، أو تثبت عليه السرقة بالبينة العادلة ، فيأمر الإمام بقطعه ، فيهب له المسروق منه الشيء المسروق قبل أن يقطع على ما صح عن صفوان رضي الله عنه .

                                                                                                                        35954 - فقال مالك ، والشافعي ، وأكثر أهل الحجاز : يقطع ؛ لأن الهبة له ، والصدقة عليه بما سرقه ، ربما وقعت بعد وجوب الحد عليه .

                                                                                                                        [ ص: 183 ] 35955 - وهو أحد قولي أبي يوسف .

                                                                                                                        35956 - وقال أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وطائفة : لا يقطع ؛ لأنه قد ملك الشيء المسروق بالصدقة والهبة قبل أن يقع ، فلا تقطع يد أحد فيما هو ملك له .

                                                                                                                        35957 - وهذا منهم دفع لحديث صفوان ؛ قوله صلى الله عليه وسلم : " فهلا قبل أن تأتيني به " ، ولم يروون شيئا يردونه به .

                                                                                                                        35958 - وكذلك اختلفوا في هذه المسألة ؛ لو وقعت الهبة من المسروق منه للسارق قبل أن يرفع إلى الأمام :

                                                                                                                        35959 - فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف من غير خلاف عنه ، ومحمد بن الحسن : لا قطع عليه .

                                                                                                                        35960 - وقال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما : يقطع .

                                                                                                                        35961 - ووافقهم على ذلك ابن أبي ليلى .

                                                                                                                        35962 - واحتج الشافعي في ذلك بالزاني بأمة غيره ، توهب له قبل أن يقام عليه الحد ، أو يشتريها قبل أن يقام عليه الحد ، أن ملكه الطارئ لا يزيل عنه الحد .

                                                                                                                        35963 - ومن حجة أبي حنفية ، ومن تابعه الحديث المرفوع : " تعافوا الحدود فيما بينكم ؛ فما بلغني من حد فقد وجب " .

                                                                                                                        [ ص: 184 ] 35964 - وقال ابن وهب : سمعت ابن جريج يحدث به ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : فهذا الحديث قد عفي عنه بالهبة ، والصدقة ، وقد حصل الشيء المسروق ملكا للسارق قبل أن يبلغ السلطان ، فلم يبلغ الحد السلطان إلا وهو يعفو عنه .

                                                                                                                        35965 - قالوا : وما صار ملكا للسارق ، واستحال أن يقطع فيه ؛ لأنه إنما يقطع في ملك غيره لا في ملك نفسه .

                                                                                                                        35966 - قالوا : والطارئ من الشبهات في الحدود ، بمنزلة ما هو موجود في الحال . قياسا على الشهادات .

                                                                                                                        35967 - قال أبو عمر : قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان : " فهلا قبل أن تأتيني به " يمنع من استعمال النظر ما يوجب التسليم إلى ما ذكرنا من صحيح القياس في ملك الزاني ، نظرا له قبل الحد . والله أعلم .




                                                                                                                        الخدمات العلمية