الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والقسم الثالث أن يجري عليه حكم الإسلام بنفسه إقرارا به واعترافا بشروطه ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            [ ص: 46 ] أحدهما : أن يكون ذلك بعد بلوغه ، فهذا مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون ذلك قبل بلوغه ، فهذا على ضربين : أحدهما : أن يكون ذلك منه في طفولته وعدم تمييزه ، فلا يكون بذلك مسلما : لأنه لا حكم لقوله ولا يصل إلى معرفة حق من باطل ولا صحيح من فاسد .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون مراهقا مميزا يصل بذهنه إلى معرفة الحق من الباطل ويميز ما بين الشبهة والدليل ، ففي الحكم بإسلامه إذا وصفه على شروطه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها وهو الظاهر من مذهب الشافعي : أنه لا يصير مسلما : لقوله - صلى الله عليه وسلم - : رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى ينتبه فرفع القلم عنه قبل البلوغ في جميع أحواله ، وجمع بينه وبين المجنون في سقوط تكليفه ، ولأن عقود المعاملات أخف حالا من شروط الإسلام ، فلما امتنع قبل البلوغ أن تصح منه العقود فأولى أن يمنع منه شروط الإسلام .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو مذهب أبي حنيفة : أن يصير مسلما : لأنه قد يصل إلى معرفة الدليل كما يصل إليه البالغ وخالف الطفل والمجنون ، ولأن عليا - عليه السلام - أسلم قبل بلوغه فحكم بصحة إسلامه ، فعلى هذا إن بلغ فرجع عن الإسلام صار مرتدا .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن إسلامه يكون موقوفا ، فإن استدام ذلك بعد بلوغه علم أنه تقدم إسلامه ، وإن فارقه بعد البلوغ علم أنه لم يكن مسلما ، وعلى هذا الوجه يحتمل إسلام علي - عليه السلام - في قول من إسلامه إلى ما قبل البلوغ ، وأنه لما استدامه بعد البلوغ علم به صحة ما تقدم إسلامه ، فهذا حكم القسم الثالث .

                                                                                                                                            والقسم الرابع أن يجري عليه حكم الإسلام بالدار ، وهذا هو اللقيط ، وقد قسمنا أحواله التي تجري عليه بها حكم الإسلام أو حكم الشرك ، فإن أجرينا عليه أحكام الشرك فبلغ ووصف الإسلام بعد بلوغه استوثق به حكم الإسلام من حينئذ ، وإن أقام على الشرك أقر عليه من غير تخويف ولا إرهاب ، وإن جرى عليه حكم الإسلام فذلك ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن نجريه عليه في الظاهر والباطن على ما ذكرنا من التقاطه في بلاد الإسلام التي لا يدخلها مشرك ، فهذا لا يقبل منه بعد البلوغ الرجوع عنه ، ويكون إن رجع عنه مرتدا .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يجري عليه حكم الإسلام في الظاهر دون الباطن ، فما لم يبلغ فحكم الإسلام جار عليه ، فإن مات غسل وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين ، وإن قتله مسلم فعليه دية مسلم ، وفي وجوب الاقتصاص منه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يقتص منه لجريان حكم الإسلام عليه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : لا يقتص منه لاحتمال حاله وأنه ربما وصف الكفر بعد بلوغه فلم يجز أن يراق دم بالشبهة ، فإن وصف الإسلام قولا وأقام عليه فعلا استقر حكم إسلامه وجرى القصاص على قاتله ، وإن رجع عنه إلى الشرك أرهب وخوف لرجوعه عن الإسلام ، فإن أبى إلا [ ص: 47 ] أن يكون مشركا سئل عن سبب شركه ، فإن قال : لأن أبي مشرك وصرت لاتباع أبي مشركا ، ترك لما اختاره من الشرك لاحتماله وأجري عليه أحكام الشرك : لأننا لم نكن حكمنا بإسلامه قطعا ، وإنما حكمنا به تغليبا .

                                                                                                                                            فإن قال : لست أعرف دين أبي ولا أعلمه مسلما ولا مشركا ولكني أختار الشرك ميلا إليه ورغبة فيه ، ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يقبل منه : لأنه لم يكن مقطوعا بإسلامه . والوجه الثاني وهو الأصح : أنه لا يقبل منه ويجعل إن أقام عليه مرتدا إلا أن يدعي شرك أبيه فيقبل منه ويقر عليه ليكون في الشرك تبعا ولا يكون متبوعا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية