الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في مسائل تتعلق بضمان الدرك

                                                                                                                                                                        إحداها : من ألفاظ هذا الضمان ، أن يقول للمشتري : ضمنت لك عهدته ، أو دركه ، أو خلاصك منه . ولو قال : ضمنت لك خلاص المبيع ، لم يصح لأنه لا يستقل بتخليصه إذا استحق . ولو ضمن عهدة الثمن وخلاص المبيع معا ، لم يصح ضمان الخلاص . وفي العهدة قولا الصفقة . ولو شرط في البيع كفيلا بخلاص المبيع ، بطل ، بخلاف ما لو شرط كفيلا بالثمن .

                                                                                                                                                                        الثانية : يشترط أن يكون قدر الثمن معلوما للضامن . فإن لم يكن ، فهو كما لو لم يكن قدر الثمن في المرابحة معلوما .

                                                                                                                                                                        الثالثة يجوز ضمان المسلم فيه للمسلم إليه لو خرج رأس المال مستحقا بعد تسليم المسلم فيه ، ولا يجوز قبله على الأصح . ولا يجوز ضمان رأس المال للمسلم لو خرج المسلم فيه مستحقا ، لأن المسلم فيه في الذمة والاستحقاق لا يتصور فيه ، وإنما يتصور في المقبوض ، وحينئذ يطالبه المسلم بمثله لا برأس المال .

                                                                                                                                                                        الرابعة : إذا ظهر الاستحقاق ، فالمشتري يطالب من شاء من البائع والضامن . ولا فرق في الاستحقاق بين أن يخرج مستحقا أو كان شقصا ثبت فيه شفعة ببيع سابق ، فأخذه الشفيع بذلك البيع ، ولو بان فساد البيع بشرط أو غيره ، ففي [ ص: 248 ] مطالبته الضامن ، وجهان . أحدهما : نعم كالاستحقاق . والثاني : لا للاستغناء عنه بإمكان حبس المبيع حتى يسترد الثمن . ولو خرج المبيع معيبا فرده المشتري ، ففي مطالبته الضامن بالثمن ، وجهان ، وأولى بأن لا يطالب ؛ لأن الرد هنا بسبب حادث وهو مختار فيه ، فأشبه الفسخ بخيار شرط أو مجلس أو تقايل ، هذا إذا كان العيب مقرونا بالعقد . أما إذا حدث في يد البائع بعد العقد ، ففي " التتمة " أنه لا يطالب الضامن بالثمن وجها واحدا ؛ لأنه لم يكن سبب رد الثمن مقرونا بالعقد ، ولم يكن من البائع تفريط فيه . وفي العيب الموجود عند العقد ، سبب الرد موجود عند العقد ، والبائع مفرط بالإخفاء ، فالتحق بالاستحقاق على رأي .

                                                                                                                                                                        قلت : أصح الوجهين الأولين ، لا يطالب . ولو خرج المبيع معيبا وقد حدث عند المشتري عيب ، ففي رجوعه بالأرش على الضامن ، الوجهان . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو تلف المبيع قبل القبض بعد قبض الثمن ، وانفسخ العقد ، هل يطالب الضامن بالثمن ؟ إن قلنا ينفسخ من أصله ، فهو كظهور الفساد بغير الاستحقاق . وإن قلنا : من حينه ، فكالرد بالعيب . ولو خرج بعض المبيع مستحقا ، ففي صحة البيع في الباقي قولا الصفقة ، وإن قلنا : يصح وأجاز المشتري ، فإن قلنا : يجيز بجميع الثمن ، لم يطالب الضامن بشيء . وإن قلنا : بالقسط ، طالبه بقسط المستحق من الثمن . وإن فسخ ، طالبه بالقسط ، ومطالبته بحصة الباقي من الثمن ، كمطالبته عند الفسخ بالعيب . وإن قلنا : لا يصح ففي مطالبته بالثمن طريقان . أحدهما : أنه كما لو بان فساد العقد بشرط ونحوه ، والثاني : القطع بتوجه المطالبة لاستناد الفساد إلى الاستحقاق ، هذا كله إذا كانت صيغة الضمان كما ذكرنا في المسألة الأولى . أما إذا عين جهة الاستحقاق ، فقال : ضمنت لك الثمن متى خرج المبيع مستحقا ، فلا [ ص: 249 ] يطالب بجهة أخرى . وكذا لو عين جهة غير الاستحقاق ، لم يطالب عند الاستحقاق .

                                                                                                                                                                        الخامسة : اشترى أرضا وبنى فيها ، أو غرس ثم خرجت مستحقة ، فقلع المستحق البناء والغراس ، فهل يجب أرش النقص على البائع وهو ما بين قيمته قائما ومقلوعا ؟ وجهان . الأصح المنصوص ، وجوبه . فعلى هذا ، لو ضمنه ضامن ، نظر إن كان قبل ظهور الاستحقاق ، أو بعده وقبل القلع ، لم يصح . وإن كان بعدهما ، إن كان قدره معلوما . ولو ضمن رجل عهدة الأرض وأرش نقص البناء والغراس في عقد واحد ، لم يصح في الأرش ، وفي العهدة قولا الصفقة . ولو كان المبيع بشرط أن يعطيه كفيلا بهما ، فهو كما لو شرط في البيع رهنا فاسدا . وقال جماعة من الأصحاب : ضمان نقص البناء والغراس ، كما لا يصح من غير البائع ، لا يصح من البائع ، وهذا إن أريد به أنه لغو . كما لو ضمن العهدة لوجوب الأرش عليه من غير التزام ، فهو جار على ظاهر المذهب . وإلا ، فهو ذهاب منهم إلى أنه لا أرش عليه .

                                                                                                                                                                        الصفة الثانية : اللزوم . والديون الثابتة ، ضربان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : ما لا يصير إلى اللزوم بحال ، وهو نجوم الكتابة ، فلا يصح ضمانها على الصحيح . ولو ضمن رجل عن المكاتب غير النجوم ، فإن ضمن لأجنبي ، صح . وإذا غرم ، رجع على المكاتب إن ضمنه بإذنه . وإن ضمنه لسيده ، نبني على أن ذلك الدين ، هل يسقط بعجزه ؟ وفيه وجهان . إن قلنا : نعم وهو الأصح ، لم يصح كضمان النجوم

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : ماله مصير إلى اللزوم . فإن كان لازما في حال الضمان ، صح ضمانه سواء كان مستقرا أم لا كالمهر قبل الدخول ، والثمن قبل قبض المبيع ، [ ص: 250 ] ولا نظر إلى احتمال سقوطه ، كما لا نظر إلى احتمال سقوط المستقر بالإبراء ، والرد بالعيب وشبههما . وإن لم يكن لازما حال الضمان ، فهو نوعان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : الأصل في وضعه اللزوم ، كالثمن في مدة الخيار ، وفي ضمانه وجهان . أصحهما : الصحة . قال في " التتمة " هذا الخلاف ، إذا كان الخيار للمشتري أو لهما . أما إذا كان للبائع ، فقط ، فيصح قطعا لأن الدين لازم في حق من عليه . وأشار الإمام إلى أن تصحيح الضمان ، مفرع على أن الخيار لا يمنع نقل الملك في الثمن إلى البائع . أما إذا منعه ، فهو ضمان ما لم يجب .

                                                                                                                                                                        النوع الثاني : ما الأصل في وضعه الجواز ، كالجعل في الجعالة ، وفيه وجهان كما سبق في الرهن به ، وموضع الوجهين بعد الشروع في العمل وقبل تمامه ، كما سبق هناك . وضمان مال المسابقة ، إن جعلناها إجارة صح ، وإلا فكالجعل .

                                                                                                                                                                        الصفة الثالثة : العلم ، وفيه صور .

                                                                                                                                                                        إحداها : ضمان المجهول ، فيه طريقان ، كضمان ما لم يجب . فإن صححناه ، فشرطه أن يمكن الإحاطة به ، بأن يقول : أنا ضامن ثمن ما بعته فلانا ، وهو جاهل به ؛ لأن معرفته متيسرة . أما إذا قال : ضمنت لك شيئا مما لك على فلان ، فباطل قطعا . والقولان في صحة ضمان المجهول يجريان في صحة الإبراء عنه . وذكروا للخلاف في الإبراء مأخذين . أحدهما : الخلاف في صحة شرط البراءة عن العيوب ، فإن العيوب مجهولة الأنواع والأقدار . والثاني : أن الإبراء هل هو إسقاط كالإعتاق ؟ أم تمليك المديون ما في ذمته ، ثم إذا ملكه سقط ؟ وفيه رأيان . إن قلنا : إسقاط ، صح الإبراء عن المجهول . وإلا فلا ، وهو الأظهر . ويتخرج على هذا الأصل مسائل . منها : لو عرف المبرئ قدر الدين ولم يعرفه المبرأ . إن قلنا : إسقاط ، صح ، وإلا فيشترط علمه كالمتهب . ومنها : لو كان له دين على هذا ، ودين على هذا ، فقال : أبرأت أحدكما . إن قلنا إسقاط ، صح ، وأخذ بالبيان . وإلا فلا ، كما لو كان [ ص: 251 ] له في يد كل واحد عبد ، فقال : ملكت أحدكما العبد الذي في يده . ومنها : لو كان لأبيه دين على رجل ، فأبرأه منه وهو لا يعلم موت الأب ، إن قلنا : إسقاط صح ، كما لو قال لعبد أبيه : أعتقك ، وهو لا يعلم موت الأب . إن قلنا : تمليك ، فهو على الخلاف فيما لو باع مال أبيه على ظن أنه حي ، فبان ميتا . ومنها : أنه لا يحتاج إلى القبول إن جعلناه إسقاطا ، وإن جعلناه تمليكا ، لم يحتج إليه على الصحيح المنصوص . فإن اعتبرنا القبول ، ارتد بالرد ، وإلا فوجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : لا يرتد . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        وهذه المسائل ، ذكرها في " التتمة " مع أخوات لها . واحتج للتمليك بأنه لو قال للمديون : ملكتك ما في ذمتك ، صح وبرئت ذمته من غير نية وقرينة ، ولولا أنه تمليك ، لافتقر إلى نية أو قرينة ، كما إذا قال لعبده : ملكتك رقبتك ، أو لزوجته : ملكتك نفسك ، فإنه يحتاج إلى النية .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو اغتابه فقال اغتبتك ، فاجعلني في حل ففعل ، وهو لا يدري ما اغتابه به ، فوجهان . أحدهما : يبرأ لأنه إسقاط محض ، كمن قطع عضوا من عبد ثم عفا سيده عن القصاص ، وهو لا يعلم عين المقطوع ، فإنه يصح . والثاني : لا ؛ لأن المقصود رضاه ، ولا يمكن الرضى بالمجهول ، ويخالف القصاص ، فإنه مبني على التغليب والسراية بخلاف إسقاط المظالم .

                                                                                                                                                                        [ قلت : أصحهما ] الصورة الثانية : ضمان أروش الجنايات ، صحيح إن كان دراهم أو دنانير . وفي ضمان إبل الدية ، إذا لم نجوز ضمان المجهول ، وجهان . ويقال : قولان . أصحهما : [ ص: 252 ] الصحة . وقيل : يصح قطعا كما يصح الإبراء عنها . وإذا دفع الحيوان وكان الضمان يقتضي الرجوع ، فهل يرجع بالحيوان ؟ أم بالقيمة ؟ قال الإمام : لا يبعد أن يجرى فيه الخلاف المذكور في إقراض الحيوان . ولا يجوز ضمان الدية عن العاقلة قبل تمام السنة ؛ لأنها غير ثابتة بعد .

                                                                                                                                                                        الصورة الثالثة : إذا منعنا ضمان المجهول ، فقال : ضمنت مما لك على فلان من درهم إلى عشرة ، فوجهان . وقيل : قولان . أصحهما الصحة لانتفاء الغرر ، فعلى هذا ، يلزمه عشرة على الأصح . وقيل : ثمانية . وقيل : تسعة .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : تسعة ، وسنوضحه في الإقرار إن شاء الله تعالى . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        وإن قال ضمنت لك ما بين درهم وعشرة ، فإن عرف أن دينه لا ينقص عن عشرة ، صح وكان ضامنا لثمانية . وإلا ، ففي صحته في الثمانية القولان ، أو الوجهان . ولو قال ضمنت لك الدراهم التي لك على فلان ، وهو لا يعرف مبلغها ، فهل يصح الضمان في ثلاثة لدخولها في اللفظ على كل حال ؟ كما لو أجر كل شهر بدرهم ، فهل يصح في الشهر الأول ، وهذه المسائل بعينها جارية في الإبراء .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يصح ضمان الزكاة عمن هي عليه على الصحيح . وقيل : لا لأنها حق لله تعالى ككفالة بدن الشاهد لأداء الشهادة . فعلى الصحيح ، يعتبر الإذن عند الأداء على الأصح .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يجوز ضمان المنافع الثابتة في الذمة كالأموال .

                                                                                                                                                                        [ ص: 253 ]

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية