الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        لا يشترط كون المرهون ملك الراهن على المذهب ، فلو استعاد عبدا ليرهنه بدين ، فرهنه ، جاز . وهل سبيله سبيل الضمان ، أم العارية ؟ قولان . أظهرهما : الأول . ومعناه : أنه ضمن الدين في رقبة عبده . قال الإمام : هذا العقد أخذ شبها من ذا ، وشبها من ذاك ، وليس القولان في تمحضه عارية أو ضمانا ، وإنما هما في أن المغلب أيهما ؟ وقال ابن سريج : إذا جعلناه عارية لم يصح هذا التصرف ; لأن الرهن ينبغي أن يلزم بالقبض ، والعارية لا يلتزم . فعلى هذا يشترط في المرهون كونه ملك الراهن . والصواب ، ما سبق ، وعليه التفريع . والعارية قد تلزم ، كالإعارة للدفن ، ونظائره . ويتفرع على المذهب فروع .

                                                                                                                                                                        أحدها : لو أذن في رهن عبده ، ثم رجع قبل أن يقبض المرتهن ، جاز ، وبعد قبضه : لا رجوع على قول الضمان قطعا ، ولا على قول العارية على الأصح ، وإلا ، فلا فائدة في هذا العقد ولا وثوق به . وقال صاحب " التقريب " إن كان الدين حالا ، رجع . وإن كان مؤجلا ، ففي جواز رجوعه قبل الأجل ، وجهان ، كما لو أعار للغراس مدة . ومتى جوزناه فرجع ، وكان الرهن مشروطا في بيع ، فللمرتهن فسخ البيع إن جهل الحال .

                                                                                                                                                                        الثاني : لو أراد المالك إجبار الراهن على فكه ، فله ذلك بكل حال ، إلا إذا كان الدين مؤجلا ، وقلنا : إنه ضمان ، وإذا حل الأجل وأمهل المرتهن الراهن ، فللمالك أن يقول للمرتهن : إما أن ترد إلي ، وإما أن تطالبه بالدين ليؤدي فينفك الرهن ، كما إذا ضمن دينا مؤجلا ومات الأصيل ، فللضامن أن يقول : إما أن تطالب بحقك ، وإما أن تبرئني .

                                                                                                                                                                        الثالث : إذا حل المؤجل ، أو كان حالا ، قال الإمام : إن قلنا : إنه ضمان ، [ ص: 51 ] لم يبع في حق المرتهن ، إن قدر الراهن على أداء الدين إلا بإذن جديد ، وإن كان معسرا ، بيع وإن سخط المالك . وإن قلنا : عارية لم يبع إلا بإذن جديد ، سواء كان الراهن موسرا ، أو معسرا . ولك أن تقول : الرهن وإن صدر من المالك ، لا يسلط على البيع إلا بإذن جديد ، فإن لم يأذن ، بيع عليه ، فالمراجعة لا بد منها . ثم إذا لم يأذن في البيع ، فقياس المذهب أن يقال : إن قلنا : عارية ، عاد الوجه في جواز رجوعه ، وإن قلنا : ضمان ، ولم يؤد الراهن الدين لم يمكن من الانتفاع ، ويباع عليه معسرا كان الراهن أو موسرا ، كما لو ضمن في ذمته ، يطالب موسرا كان الأصيل ، أو معسرا ، ثم إذا بيع في الدين بقيمته ، رجع بها المالك على الراهن . وإن بيع بأقل بقدر يتغابن الناس بمثله ، فإن قلنا : ضمان ، رجع بما بيع به . وإن قلنا : عارية ، رجع بقيمته ، وإن بيع بأكثر من قيمته رجع بما بيع به إن قلنا : ضمان . وإن قلنا : عارية ، فقال الأكثرون : لا يرجع إلا بالقيمة ; لأن العارية بها يضمن . وقال القاضي أبو الطيب : يرجع بما بيع به كله ؛ لأنه ثمن ملكه وقد صرف إلى دين الراهن ، وهذا أحسن ، واختاره الإمام ، وابن الصباغ ، والروياني .

                                                                                                                                                                        قلت هذا الذي قاله القاضي ، وهو الصواب ، واختاره أيضا الشاشي وغيره . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الرابع : لو تلف في يد المرتهن ، فإن قلنا : عارية ، لزم الراهن الضمان . وإن قلنا : ضمان ، فلا شيء عليه ولا شيء على المرتهن بحال ؛ لأنه مرتهن لا مستعير .

                                                                                                                                                                        [ ص: 52 ] ولو تلف في يد الراهن ، قال الشيخ أبو حامد : هو على القولين ، كما لو تلف في يد المرتهن ، وأطلق الغزالي ، أنه يضمن ؛ لأنه مستعير .

                                                                                                                                                                        قلت : المذهب : الضمان . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الخامس : لو جنى في يد المرتهن ، فبيع في الجناية ، فإن قلنا : عارية ، لزم الراهن القيمة . قال الإمام : هذا إذا قلنا : العارية تضمن ضمان المغصوب ، وإلا ، فلا شيء عليه .

                                                                                                                                                                        السادس : إذا قلنا : ضمان ، وجب بيان جنس الدين وقدره وصفته في الحلول والتأجيل وغيرهما ، وحكي قول قديم غريب ضعيف : أن الحلول والتأجيل لا يشترط ذكرهما ، والأصح : أنه يشترط بيان من يرهن عنده ، ولا خلاف أنه إذا عين شيئا من ذلك لم يجز مخالفته ، لكن لو عين قدرا فرهن بما دونه ، جاز ، ولو زاد عليه ، فقيل : يبطل في الزائد ، وفي المأذون قولا تفريق الصفة ، والمذهب : القطع بالبطلان في الجميع للمخالفة . وكما لو باع الوكيل بغبن فاحش ، لا يصح في شيء . ولو قال : أعرني لأرهنه بألف ، أو عند فلان ، كان ذلك كتقييد المعير على الأصح .

                                                                                                                                                                        قلت : وإذا قلنا : عارية ، فله أن يرهن عند الإطلاق بأي جنس شاء ، وبالحال والمؤجل . قال في التتمة لكن لا يرهنه بأكثر من قيمته ; لأن فيه ضررا . فإنه لا يمكنه فكه إلا بقضاء جميع الدين . ولو أذن في حال فرهنه بمؤجل لم يصح كعكسه ؛ لأنه لا يرضى أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        السابع : لو أعتقه المالك ، إن قلنا : ضمان ، فقد حكى الإمام عن القاضي : أنه ينفذ ويوقف فيه . وفي " التهذيب " أنه كإعتاق المرهون ، وإن قلنا : عارية ، [ ص: 53 ] قال القاضي : كإعتاق المرهون ، وهذا تفريع على اللزوم ، هذا الرهن على قول العارية . وفي " التهذيب " أنه يصح ويكون رجوعا ، وهو تفريع على عدم اللزوم .

                                                                                                                                                                        الثامن : لو قال مالك العبد : ضمنت ما لفلان عليك في رقبة عبدي هذا ، قال القاضي : صح ذلك على قول الضمان ، ويكون كالإعارة للرهن . قال الإمام : وفيه تردد من جهة أن المضمون له لم يقبل ، ويجوز أن يعتبر القبول في الضمان المتعلق بالأعيان ، تقريبا له من المرهون ، وإن لم يعتبر ذلك في الضمان المطلق في الذمة .

                                                                                                                                                                        التاسع : لو قضى المعير الدين بمال نفسه ، انفك الرهن ، ثم رجوعه على الراهن يتعلق بكون القضاء بإذن الراهن أم بغيره ، وسنوضحه في باب الضمان إن شاء الله تعالى . فلو اختلفا في الإذن ، فالقول قول الراهن ، ولو شهد المرتهن للمعير ، قبلت شهادته لعدم التهمة . ولو رهن عبده بدين غيره دون إذنه ، جاز ، وإذا بيع فيه ، فلا رجوع .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية