الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الثالث عشر: أن يقال: أهل الأرض من المسلمين وغيرهم لهم في تنزيه الرب عن بعض الأفعال قولان مشهوران.

فطائفة تقول: ليس في فعله لشيء من الممكنات نقص، والظلم لا حقيقة له إلا ما هو ممتنع، بل كل ممكن ففعله جائز عليه، وإن لم يفعله فلعدم مشيئته له، لا لكونه نقصا.

وهذا قول الجهمية والأشعرية، وطوائف من الفقهاء أصحاب المذاهب الأربعة، وأهل الحديث والصوفية، وغيرهم. وعلى هذا فلا يسلم هؤلاء أن إثبات شيء من الأفعال لواجب الوجود نقص، وإذا منعوا هذا في الفعل، ففي العلم أولى وأحرى.

والقول الثاني: قول من يقول: بل هو منزه عن بعض الأفعال المقدورة. وهذا قول أكثر الناس من المثبتين للقدر، كالكرامية، وغيرهم من المعتزلة، وغيرهم نفاة القدر. وهو قول كثير من أهل المذاهب الأربعة، وأهل الحديث، والصوفية والعامة وغيرهم.

وعلى هذا القول فلا نسلم أن ما ينزه عن أن يفعله يجب أن يتنزه [ ص: 29 ] عن علمه به، فإن العلم يتعلق بالواجب والممكن والممتنع، والموجود والمعدوم، وأما الفعل فلا يتعلق إلا بما يراد، ولا يراد إلا ما هو ممكن في نفسه، وما تكون إرادته حكمة على قول هؤلاء.

ومعلوم أن الواحد من الناس يحمد بأنه لا يفعل القبيح، ولا يحمد بأن لا يعلمه، ويعلم حسن فعله ويعلم قبحه، ولم يقل أحد قط: إن علمنا بقصص المكذبين للرسل وما فعلوه من السيئات نقص، كما أن تلك الأفعال نقص، بل المعرفة بالخير والشر من صفات الكمال.

وإن قيل: مراده أن العلم يلزم منه التغير أو التكثر.

فيقال له: معلوم أن هذا اللازم لفعله المتكثرات والمتغيرات ألزم، فإن فعله للمتكثرات والمتغيرات يلزم منه قيام معان في ذاته، فليس ذلك نقصا، ولا يكون في علمه بها مع هذه اللوازم نقص.

وإن قيل: بل فعله للمتغيرات والمتكثرات لا يلزم منه قيام معان متكثرة متغيرة في ذاته.

فيقال: إن كان هذا حقا، فعلمه بها أولى أن لا يلزم منه قيام معان متكثرة متغيرة، فإنه من المعلوم بصريح العقل أن اقتضاء الأفعال المتكثرة والمتغيرة للتعدد والتجدد في الذات الفاعلة، أولى من اقتضاء المعلومات المتكثرة والمتغيرة للتعدد والتجدد في الذات [ ص: 30 ] العالمة، فإن كل عاقل لفعل محكم عالم به، وليس كل عالم به فاعلا له.

وهؤلاء، وإن كانوا قد قالوا في فعله أقوالا باطلة، لظنهم أنه لا يصدر عنه ابتداء إلا واحد بشرط، فقد لزمهم أن يجعلوا كل شيء مفعول له بوسط أو بغير وسط، فكان الواجب أن يقولوا: إنه علام بكل شيء جرى، كما هو فاعل لكل شيء جرى؛ إذ الكليات لا توجد في الأعيان إلا جزئية معينة.

التالي السابق


الخدمات العلمية