الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب مكاتبة الأمة الحامل

( قال ) رضي الله تعالى عنه : رجل كاتب أمة له حاملا فما في بطنها داخل في كتابتها ذكر أو لم يذكر كما يدخل في بيعها ; لأنه جزء منها ولأنها لو حبلت بعد الكتابة ، وولدت كان الولد داخلا في كتابتها فإذا كان موجودا عند العقد أولى فإن استثنى ما في بطنها لم تجز الكتابة كما لو باعها واستثنى ما في بطنها وهذا ; لأنه بالاستثناء يشترط ما في بطنها لنفسه ، وهو شرط فاسد متمكن في صلب العقد فتبطل به الكتابة كما لو استثنى وطأها أو خدمتها لنفسه .

وإن كاتب ما في بطنها دونها لم يجز كما لو باع ما في البطن وهذا ; لأن ما في البطن بمنزلة جزء منها فلا يحتمل الكتابة مقصودا ولأن الكتابة لا تتم إلا بالقبول والقبول من الجنين لا يتحقق وليس لأحد عليه ولاية القبول الأم وغيرها فيه سواء ; لأن القابل لا يمكن أن يجعل نائبا فإن نيابة الغير شرعا فيما يكون متصورا من المنوب عنه وإن كاتبها ، وهي حامل [ ص: 29 ] فولدت ، ثم ماتت سعى الولد في مكاتبتها على نجومها ; لأنه جزء منها انفصل بعد ثبوت حكم الكتابة فيها والنجوم تبقى ببقاء مثل هذا الجزء وإن كان عليها دين سعى فيه أيضا ; لأن هذا الجزء قائم مقامها ، وهي في حياتها كانت تسعى في الدين والكتابة جميعا فإن أدى الولد المكاتبة قبل الدين عتق وأخذه الغرماء بالدين حتى يسعى لهم فيه استحسانا .

وفي القياس لا يعتق ; لأن كسب الولد فيما يرجع إلى حاجتها ككسبها وإنما يبدأ من كسبها بالدين قبل الكتابة ; لأن الدين أقوى من الكتابة ألا ترى أنه لا يسقط عنها بالعجز ولكنه استحسن فقال الولد قائم مقامها ، وهي في حياتها لو أدت الكتابة قبل الدين عتقت وكان للغرماء أن يطالبوها بالدين فكذلك الولد إذا أدى وهذا ; لأن ذمة الولد خلف عن ذمتها ولهذا بقيت النجوم ببقاء الولد فهما دينان في ذمته فإذا قضى أحدهما من كسبه صح قضاؤه ولا سبيل للغرماء على ما أخذه المولى ; لأن حقهم في ذمته فيطالبونه بأن يسعى لهم كما لو كانت هي التي أدت الكتابة في حياتها .

وإن عجز عن المكاتبة رده القاضي رقيقا وبيع في الدين للغرماء كما لو عجزت هي في حياتها وهذا ; لأن الدين ثابت في ذمته والدين في ذمة الرقيق يثبت متعلقا بمالية الرقبة فيباع فيه وإن كان المولى قد قبض منه شيئا من المال فهو سالم له كما لو كان أخذ منها في حياتها وهذا ; لأنه بمنزلة غريم من الغرماء وللمكاتب أن يقضي بعض غرمائه ويسلم المقبوض للقابض عتق المكاتب أو عجز ; لأنه في قضاء الدين بكسبه كالحر وإذا قتل الولد خطأ أخذت الدية من عاقلة القاتل فيبدأ منها بقضاء الدين ; لأن بدل نفس الولد بمنزلة كسبه وذلك في حاجتها بمنزلة مالها فيبدأ منه بقضاء الدين ، ثم بالكتابة ; لأن الذمة لما خربت تعلقت الحقوق بالمال فيبدأ بالأقوى ، والدين أقوى من الكتابة ، ثم تقضى الكتابة بعد ذلك والباقي يكون لورثة الابن دون ورثة الأم ; لأنه يحكم بعتقها وعتق الولد بأداء المكاتبة ولا حق لها فيما كان فاضلا عن حاجتها من بدل نفس الولد وكسبه ألا ترى أن الولد لو كان حيا كان الفضل سالما له فكذا يسلم لورثته بعد موته ويستوي إن كاتبها ، وهي حامل أو ولدت في كتابتها وإن ماتت الأم وتركت مالا وفاء بالدين الذي عليها فقبض المولى ذلك من الكتابة تعتق الأم والولد إذا كان الولد هو الذي أدى إليه ; لأنه خلف عنها فأداؤه كأدائها إلا أن الغرماء أحق بذلك المال يأخذونه من المولى ; لأن حقهم تعلق بمالها بعد الموت كما يتعلق حق غرماء الحر بماله بعد موته وحقهم أقوى من حق المولى وليس للابن ولاية إبطال حقهم فلهذا [ ص: 30 ] أخذوا المال منه ، ثم يرجع هو على الابن ببدل الكتابة ولكن لا يبطل العتق كما لو استحق المقبوض من البدل وهذا بخلاف ما إذا لم تترك مالا وأدى الولد الكتابة من كسبه ; لأن هناك حق الغرماء في ذمته كحق المولى ، وهو مكاتب قائم مقام الأم فيملك تخصيص بعض الغرماء بقضاء الدين من كسبه .

وإن كان المولى هو الذي قبض مالها من غير أداء الولد إليه لم يعتق ; لأن هذا مال الغرماء فالمولى غاصب في أخذه لا مستوف لبدل الكتابة بخلاف ما إذا أدى الولد ; لأنه يكون مؤديا بدل الكتابة بمال هو حق غيره ألا ترى أنه لو كان في يدها مال مغصوب لإنسان فغصب المولى ذلك منها لم تعتق ولو أدت إليه بجهة الكتابة عتقت فكذلك بعد موتها وإن كان القاضي دفعه إليه ، وهو لا يعلم أن عليها دينا فهو بمنزلة الباب الأول تعتق هي وولدها ; لأن أداء القاضي كأداء الولد أو أقوى منه ; لأن القاضي له ولاية قضاء دين الميت من ماله كما يكون لمن يخلفه ذلك .

وإن أعتق المولى ولدها في حياتها عتق ولم يرفع عنها شيء من الكتابة ; لأنه تبع محض لا يقابله شيء من البدل إذا لم يكن من أهل القبول وقت عقد الكتابة فهو كالولد المولود في الكتابة ، وإن ماتت ولم تترك مالا فأعتق المولى الولد جاز العتق ; لأنه قائم مقامها ولو أعتقها المولى جاز العتق وإن كان عليها دين وبقي حق الغرماء في ذمتها فكذلك إذا أعتق ولدها وهذا ; لأن حق غرمائها لا يتعلق بذمة الولد ما بقيت الكتابة إنما يتعلق بالكسب ، وبالعتق لا يفوت شيء من محل حقهم فلا يمنع نفوذ العتق من المولى ولا يفوت الغرماء شيء من محل حقهم ولا يضمن للغرماء شيئا ولكن الولد يسعى لهم في الدين كما كان يفعله قبل العتق .

التالي السابق


الخدمات العلمية