الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب حكم نصارى بني تغلب قال الله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله : من الذين أوتوا الكتاب ونصارى بني تغلب منهم ؛ لأنهم ينتحلون نحلتهم ، وإن لم يكونوا متمسكين بجميع شرائعهم ، وقال الله تعالى : ومن يتولهم منكم فإنه منهم فجعل الله تعالى من يتولى قوما منهم في حكمهم ؛ ولذلك قال ابن عباس في نصارى بني تغلب : إنهم لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم لقوله تعالى : ومن يتولهم منكم فإنه منهم وذلك حين قال علي رضي الله عنه : إنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر ، قال ابن عباس ذلك ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين جاءه فقال له : أما تقول إلا أن يقال لا إله إلا الله ؟ فقال : إن لي دينا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا أعلم به منك ألست ركوسيا ؟ قال : نعم ، قال : ألست تأخذ المرباع ؟ قال : نعم ، قال : فإن ذلك لا يحل لك في دينك فنسبه إلى صنف من النصارى مع إخباره بأنه غير متمسك به بأخذه المرباع ، وهو ربع الغنيمة غير مباحة في دين النصارى ، فثبت بذلك أن انتحال بني تغلب لدين النصارى يوجب أن يكون حكمهم حكمهم ، وأن يكونوا أهل كتاب ، وإذا كانوا من أهل الكتاب وجب أخذ الجزية منهم ، والجزاء والجزية واحد ، وهو أخذ المال منهم عقوبة وجزاء على إقامتهم على الكفر ولم يذكر في الآية لها مقدارا معلوما ، ومهما أخذ منهم على هذا الوجه فإن اسم الجزية يتناوله .

وقد وردت أخبار متواترة عن أئمة السلف في تضعيف الصدقة في أموالهم على ما يؤخذ من المسلمين ، وهو قول أهل العراق وأبي حنيفة وأصحابه والثوري ، وهو قول الشافعي ، وقال مالك في النصراني إذا أعتقه المسلم : { فلا جزية عليه ولو جعلت عليه الجزية لكان العتق قد أضر به ولم ينفعه شيئا } ، ولا تحفظ عن مالك في بني تغلب شيئا .

وروى يحيى بن آدم قال : حدثنا عبد السلام عن أبي إسحاق الشيباني عن السفاح عن داود بن كردوس عن عمارة بن النعمان أنه قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قد علمت شوكتهم ، وأنهم بإزاء العدو ، فإن ظاهروا عليك العدو اشتدت مؤنتهم ؛ فإن رأيت أن تعطيهم شيئا فافعل فصالحهم على أن لا يقسموا أولادهم في النصرانية ، وتضاعف عليهم الصدقة ؛ قال : وكان عمارة يقول : قد فعلوا فلا عهد لهم . وهذا [ ص: 287 ] خبر مستفيض عند أهل الكوفة قد وردت به الرواية والنقل الشائع عملا ، وهو مثل أخذ الجزية من أهل السواد على الطبقات الثلاث ، ووضع الخراج على الأرضين ، ونحوها من العقود التي عقدها على كافة الأمة فلم يختلفوا في نفاذها وجوازها . وقد روي عن علي أنه قال : لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة ، ولأسبين الذرية وذلك أني كتبت الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ينصروا أولادهم ولم يخالف عليا في ذلك أحد من الصحابة ، فانعقد به إجماعهم ، وثبت به اتفاقهم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، ويعتقد عليهم أولهم ومعناه والله أعلم جواز عقود أئمة العدل على الأمة .

فإن قيل : أمر الله بأخذ الجزية منهم فلا يجوز لنا الاقتصار بهم على أخذ الصدقة منهم ، وإعفاؤهم من الجزية . قيل له : الجزية ليس لها مقدار معلوم فيما يقتضيه ظاهر لفظها ، وإنما هي جزاء وعقوبة على إقامتهم على الكفر والجزاء لا يختص بمقدار دون غيره ، ولا بنوع من المال دون ما سواه ، والمأخوذ من بني تغلب هو عندنا جزية ليست بصدقة ، وتوضع مواضع الفيء ؛ لأنه لا صدقة لهم ، إذ كان سبيل الصدقة وقوعها على وجه القربة ولا قربة لهم ، وقد قال بنو تغلب : نؤدي الصدقة مضاعفة ، ولا نقبل أداء الجزية ، فقال عمر : هو عندنا جزية ، وسموها أنتم ما شئتم . فأخبر عمر أنها جزية . وإن كانت حقا مأخوذا من مواشيهم وزرعهم .

فإن قيل : لو كانت جزية لما أخذت من نسائهم ؛ لأن النساء لا جزية عليهن . قيل له : يجوز أخذ الجزية من النساء على وجه الصلح ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بعض أمرائه على بعض بلدان اليمن أن يأخذ من كل حالم أو حالمة دينارا أو عدله من المعافر . وقال أصحابنا : تؤخذ من موالي بني تغلب إذ كانوا كفارا الجزية ، ولا تضاعف عليهم الحقوق ، وفي أموالهم ؛ لأن عمر إنما صالح بني تغلب على ذلك ، ولم يذكر فيه الموالي ، فمواليهم باقون على حكم سائر أهل الذمة في أخذ جزية الرءوس منهم على الطبقات المعلومة ، وليس بواجب أن يكونوا في حكم مواليهم كما أن المسلم إذا أعتق عبدا نصرانيا لا يكون في حكم مولاه في باب سقوط الجزية عنه .

فإن قيل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : موالي القوم من أنفسهم . قيل له : مراده أنه منهم في الانتساب إليهم ، نحو مولى بني هاشم يسمى هاشميا ، ومولى بني تميم يسمى تميميا ، وفي النصرة والعقل كما يعقل عنه ذوي الأنساب ، فهذا معنى قوله : موالي القوم منهم ولا دلالة فيه على أن حكمه [ ص: 288 ] حكمهم في إيجاب الجزية وسقوطها . وأما شرط عمر عليهم أن لا يغمسوا أولادهم في النصرانية فإنه قد روي في بعض الأخبار أنه شرط أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية إذا أرادوا الإسلام ، فإنما شرط عليهم بذلك أنه ليس لهم أن يمنعوا أولادهم الإسلام إذا أرادوه .

وقد حدثنا مكرم بن أحمد بن مكرم قال : حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال : سمعت أبا عبيد يقول : كنا مع محمد بن الحسن إذ أقبل الرشيد ، فقام الناس كلهم إلا محمد بن الحسن فإنه لم يقم ، وكان الحسن بن زياد معتل القلب على محمد بن الحسن فقام ودخل ، ودخل الناس من أصحاب الخليفة ، فأمهل الرشيد يسيرا ثم خرج الإذن ، فقام محمد بن الحسن فجزع أصحابه له ، فأدخل فأمهل ثم خرج طيب النفس مسرورا ، قال : قال لي : ما لك لم تقم مع الناس ؟ قال : كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها ، إنك أهلتني للعلم فكرهت أن أخرج إلى طبقة الخدمة التي هي خارجة منه ، وإن ابن عمك صلى الله عليه وسلم قال : من أحب أن يميل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار ، وإنه إنما أراد بذلك العلماء ، فمن قام بحق الخدمة ، وإعزاز الملك فهو هيبة للعدو ، ومن قعد اتباعا للسنة التي عنكم أخذت فهو زين لكم ، قال : صدقت يا محمد ثم شاورني فقال : إن عمر بن الخطاب صالح بني تغلب على أن لا ينصروا أولادهم ، وقد نصروا أبناءهم ، وحلت بذلك دماؤهم ، فما ترى ؟ قال : قلت : إن عمر أمرهم بذلك ، وقد نصروا أولادهم بعد عمر ، واحتمل ذلك عثمان وابن عمك .

وكان من العلم بما لا خفاء به عليك ، وجرت بذلك السنن ، فهذا صلح من الخلفاء بعده ، ولا شيء يلحقك في ذلك ، وقد كشفت لك العلم ، ورأيك أعلى ، قال : لا ، ولكنا نجريه على ما أجروه إن شاء الله ، إن الله جل اسمه أمر نبيه بالمشورة تمام المائة التي جعلها الله له ، فكان يشاور في أمره فيأتيه جبريل بتوفيق الله ، ولكن عليك بالدعاء لمن ولاه الله أمرك ، ومر أصحابك بذلك ، وقد أمرت لك بشيء تفرقه على أصحابك . قال : فخرج له مال كثير ففرقه . قال أبو بكر : فهذا الذي ذكره محمد في إقرار الخلفاء بني تغلب على ما هم عليه من صبغهم أولادهم في النصرانية حجة في تركهم على ما هم عليه ، وأنهم بمنزلة سائر النصارى ، فلا تخلو مصالحة عمر إياهم أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية من أحد معنيين : إما أن يكون مراده وأن لا يكرهوهم على الكفر إذا أرادوا الإسلام ، أو أن لا ينشئوهم على الكفر من صغرهم ، فإن أراد الأول فإنه لم يثبت أنهم منعوا أحدا من أولادهم التابعين من الإسلام ، وأكرهوهم على الكفر فيصيروا به ناقضين للعهد ، وخالعين للذمة ، وإن كان المراد [ ص: 289 ] الوجه الثاني فإن عليا وعثمان لم يعترضوا عليهم ، ولم يقتلوهم .

وأما قول مالك في العبد النصراني إذا أعتقه المسلم أنه لا جزية عليه ، فترك لظاهر الآية بغير دلالة ، إذ لا فرق بين من أعتقه مسلم ، وبين سائر الكفار الذين لم يعتقوا .

وأما قوله : { لو جعلت عليه الجزية لكان العتق قد أضر به ولم ينفعه شيئا } فليس كذلك ؛ لأنه في حال الرق إنما لم تلزمه الجزية ؛ لأن ماله لمولاه ، والمولى المسلم لا يجوز أخذ الجزية منه ، والجزية إنما تؤخذ من مال الكفار عقوبة لهم على إقامتهم على الكفر ، والعبد لا مال له فتؤخذ منه ، فإذا عتق وملك المال وجبت الجزية ، وأخذنا الجزية منه لم يسلبه منافع العتق في جواز التصرف على نفسه وزوال ملك المولى ، وأمره عنه وتمليكه سائر أمواله . وإنما الجزية جزء يسير من ماله قد حقن بها دمه فمنفعة العتق حاصلة له .

التالي السابق


الخدمات العلمية