الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 132 ] باب الامتناع من اليمين

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا كانت الدعوى غير دم في مال ، أحلف المدعى عليه ، فإن حلف برئ ، وإن نكل قيل للمدعي احلف واستحق ، فإن أبيت سألناك عن إبائك ، فإن كان لتأتي ببينة أو لتنظر في حسابك تركناك ، وإن قلت لا أؤخر ذلك لشيء غير أنى لا أحلف ، أبطلنا أن تحلف " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، وإنما شرط أن تكون الدعوى في غير دم ، لأن دعوى الدم مخالفة لدعوى المال من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يبدأ بيمين المدعي مع اللوث .

                                                                                                                                            والثاني : أن يحلف في الدم خمسين يمينا .

                                                                                                                                            وهذان الوجهان ممتنعان في دعوى الأموال .

                                                                                                                                            فإذا كانت الدعوى في مال ، وأنكره المدعى عليه .

                                                                                                                                            قيل للمدعي : ألك بينة ؟ فإن أقامها حكم له بها ، ولم يحلف المدعى عليه معها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي لما تحاكم إليه مع الكندي : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال : لك يمينه ليس لك منه إلا ذاك . فقدم البينة على اليمين ، ولأن البينة حجة خارجة عن المحتج بها ، فانتفت التهمة عنها ، واليمين صادرة عن المحتج بها فتوجهت التهمة إليها ، وما عدمت التهمة فيه أقوى مما توجهت إليه .

                                                                                                                                            وتقديم الأقوى على الأضعف أولى من تقديم الأضعف على الأقوى : ولأن البينة قول اثنين ، واليمين قول واحد ، وقول الاثنين أولى من قول الواحد .

                                                                                                                                            فإن لم يقم المدعي البينة ، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ، لأنه قد صار مع عدم البينة أقوى من المدعي ، لأن الدعوى إن كانت في دين يتعلق بذمته ، فالأصل براءة ذمته .

                                                                                                                                            وإن كانت في عين بيده دلت اليد في الظاهر على ملكه ، وقيل للمدعي : قد وجبت لك عليه اليمين ، فأنت في استقضائها عليه مخير ، فإن أعفاه أمسك عن [ ص: 133 ] المطالبة ، وإن طالب بها قيل للمدعى عليه : أتحلف ؟ فإن حلف سقطت الدعوى وإن نكل لم يسأل عن سبب النكول إلا أن يبتدئ ، فيقول : أنا متوقف عن اليمين ، لأنظر في حسابي ، وأستثبت حقيقة أمري ، فينظر ما قل من الزمان ، ولا يبلغ إنظاره ثلاثة أيام .

                                                                                                                                            وإن لم يبتدئ بذكر السبب الموجب لتوقفه حكم بنكوله ، ولم يقض عليه بالدعوى حتى يحلف المدعي على استحقاقها .

                                                                                                                                            وحكم عليه أبو حنيفة بالحق إذا نكل . والكلام معه يأتي .

                                                                                                                                            قال الشافعي : لأن نكول المدعى عليه عن اليمين ليس بإقرار منه بالحق ، ولا بحجة للمدعي ، فلا أقضي عليه ، فإن بذل اليمين ، بعد نكوله لم تقبل منه ، لسقوط حقه منها بالنكول . وسواء كان بعد رد اليمين على المدعي أو قبله .

                                                                                                                                            فإذا حلف المدعي صار بيمينه مع نكول المدعى عليه أقوى منه ، فقضى بحقه عليه ، واختلف هل تكون يمينه مع النكول قائمة مقام الإقرار أو مقام البينة على قولين فذكرهما من بعد . وإن توقف المدعي عن اليمين لم يحكم بنكوله حتى يسأل عن سبب توقفه ، فإن ذكر أنه متوقف عن اليمين ، ليرجع إلى حسابه ، ويستظهر لنفسه - أنظر بها ، وكان على حقه من اليمين ، ولم تضيق عليه المدة .

                                                                                                                                            ولو تركها تارك بخلاف المدعى عليه إذا استنظر ، لأن يمين المدعي حق له ، ويمين المدعى عليه حق عليه .

                                                                                                                                            فإن لم يذكر المدعي في توقفه عن اليمين عذرا إلا أنه لا يختار أن يحلف ، حكم بنكوله ، وسقوط دعواه .

                                                                                                                                            فإن دعا إلى اليمين بعد نكوله عنها لم يستحلف بعد الحكم بنكوله ، وقيل : لك أن تستأنف الدعوى ، فتصير كالمبتدئ بها . ويكون للمدعى عليه أن يحلف إذا أنكرها : لأنها غير الدعوى التي حكم بنكوله فيها ، فإن حلف برئ وسقطت الدعوى ، وإن نكل ردت على المدعي ، فإذا حلف حكم له بالدعوى .

                                                                                                                                            فإن قيل : فلم سألتم المدعي عن سبب نكوله ، ولم تسألوا المدعى عليه عن سبب نكوله ؟ قيل : لأن نكول المدعى عليه قد أوجب حقا للمدعي في رد اليمين عليه ، فلم يجز أن يتعرض الحاكم لإسقاطه بسؤال المدعى عليه ، ويمين المدعي مقصورة على حق نفسه ، لا يتعلق بها حق لغيره ، فجاز أن يسأل عن سبب امتناعه منها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية