الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            نتائج الدراسة

            سجلت في بعض صفحات هذه الدراسة بعض الاستنتاجات والنتائج التي لـم يتحتم تأجيلها. وبعد أن استعرضت كل جوانب موضوع الدراسة - من وجهة نظري- على الآن أن استخلص النتائج من خلال الإجابة على التساؤلات التي طرحتها في مقدمتها، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال النتائج التي أطرحها فيما يلي:

            بينت الدراسة كيف شهد العالم إبان عصور الحضارة الإسلامية ازدهار العلوم والمعارف وتطورها والإبداع فيها، فعلى مدى قرون طويلة تقترب من الألف سنة، كان العلم على مستوى العالم ينطق بالعربية، درسا وممارسة وتطبيقا. وأوضحت الدراسة كيف وجد العلماء وأصحاب العقول في المجتمع الإسلامي البيئة العلمية المناسبة لممارسة العلم والمشجعة على العمل به، وخاصة من قبل الـدولة التي تولت رسميا رعـاية العـلماء والمفكرين، وتنشئة العلماء ورعايتهم، وليس أدل على ذلك من انتشار المدارس والجامعات والمعاهد العليا والمكتبات العامة والخاصة في كل أرجاء العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، فعاش نهضة علمية غير مسبوقة. وأثبتت الدراسة أن من أوائل أسباب هذه النهضة اهتمام الخلفاء والأمراء بالعلم ورعايتهم لأهله وتشجيعهم، ومنهم، على سبيل المثال، هارون الرشيد الذي [ ص: 126 ] أصبحت بغداد في عهده كعبة رجال العلم والأدب. وكان هو نفسه من أفاضل العلماء وفصحائهم.

            وإذا كان هارون الرشيد قد وضع الأساس لبيت الحكمة في بغداد لتكون أول دار عامة تجمع شتات العلماء وتجري عليهم الأرزاق، فإن الخليفة المأمون قد أكمل بناء الدار ووسعها، وبذل كل ما في وسعه لاقتناء نفائس الكتب المعروفة وقتئذ، ورتب فيها العلماء والتراجمة، ومنهم العالم الخوارزمي مخترع علم الجبر للعالمين. وزادت رعاية المأمون لبيت الحكمة حتى صار باعتراف الغربيين أول مكتبة عامة ذات شأن في العالم الإسلامي، وأول جامعة إسلامية يجتمع فيها العلماء للبحث والدرس، وعلى أثرها انتشرت دور العلم والمكتبات العامة في معظم أقطار العالم الإسلامي. وبعد أن بينت الدراسة مدى شغف المأمون وحبه للعلم ورعايته لأهله، أوردت الدراسة مثالا لرعايته لأسرة علمية كان لها شأو عظيم في النهضة العلمية التي شهدها العالم الإسلامي، وسجلت بإنجازاتها العلمية أروع الصفحات في تاريخ العلم العالمي، ألا وهي أسرة بني موسى بن شاكر.

            وأوضحت الدراسة كيف كان الخليفة الواثق بالله محبا للعلم مكرما لأهله، مشرفا على علوم الناس وآرائهم ممن تقدم وتأخر. وكذلك الخليفة المعتضد بالله، الذي أشتهر باحترام العلم والعلماء وتقريبهم وجزل العطايا لهم. ووقفت الدراسة على استمرار دور الدولة الإسلامية في الاهتمام بالعلم ورعاية العلماء على مدى عصورها المختلفة، فبينت كيف أنشأ الخليفة الموحدي [ ص: 127 ] الثالث المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن "بيت الطلبة" للنابغين وتولى الإشراف عليه بنفسه، إلى الدرجة التي معها، حسد بعض حاشيته هؤلاء الطلاب على تقريبه إياهم وخلوته بهم دونهم. كذلك لم يسمـع الأمير المعز ابن باديس، أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، بعالم جليل في أي مصر من الأمصار إلا وأحضره عنده، وبالغ في إكرامه ومنحه أسمى الرتب وجعله من خاصته. كما لم يسمع السلطان محمد الفاتح عن أي عالم في أي مكان أصابه العوز، إلا بادر إليه وأعطاه أكثر مما يحتاج، وبلغت رعايته للعلماء حدا حتى ضمنها وصيته لابنه وهو على فراش الموت حيث قال: إن العلماء بمنزلة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر، فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال. وأكرمت الخلافة العثمانية علماءها، وذلك بعد أن عقدت العزم ونجحت في جمع شتاتهم من كل الأمصار، ثم وفرت لهم كل سبل الرعاية، الأمر الذي أدى إلى ازدهار الحركة العلمية والفكرية، وانعكس على تقدم الدولة وتطورها، وجعل منها القوة الأولى في العالم.

            ومن كل ما سبق انتهت الدراسة إلى مدى الشوط الكبير الذي قطعه المجتمع الإسلامي إبان عصور حضارته للحفاظ على العلماء وأصحاب العقول هؤلاء، الذين لم يجدوا أمامهم أي قيود تعوق أو تمنع البحث العلمي، بل على العكس، كانت الظروف الاجتماعية والمادية والنفسية مهيأة لهم [ ص: 128 ] تماما، الأمر الذي لا تجد معه أي عالم أو صاحب كفاءة قد هاجر وعمل خارج حدود العالم الإسلامي.

            ورأت الدراسة أن عوامل الحفاظ على العلماء وأصحاب العقول في المجتمع الإسلامي إبان عصور ازدهار حضارته تمثل الفروق الجوهرية بين واقع العالم الإسلامي آنذاك وواقعه حاليا، ومن هنا وقفت الدراسة على أهم الأسباب والدوافع التي تدفع العقول والكفاءات الإسلامية للهجرة خارج العالم الإسلامي حاليا، وانتهت إلى أن العامل الاقتصادي يأتي في مقدمة العوامل الدافعة للهجرة حيث يطرد الفقر الكفاءات من الدول النامية إلى الدول المتقدمة. ويتمثل الفقر هنا في ضعف العائد المادي لأصحاب الكفاءات وخاصة العلمية، الأمر الذي يخلق لهم ظروفا اجتماعية غير مواتية يصعب الإبداع والابتكار في أجوائها. وكذلك البيروقراطية والفساد الإداري والقوانين والتشريعات التي تقف أمام الكفاءات والخبرات، وتضييق الحريات على العقول العلمية المبدعة,في حين يجد الطلاب العرب والمسلمون الذين يسافرون إلى الدول الغربية للدراسة جوا علميا يصعب أن يقارن بمثيله في الدول العربية الإسلامية، ويواجه العائد منهم إلى بلده قيودا ومعوقات تجعله يشعر باليأس، فتدفعه للهجرة ثانية، خاصة مع قلة الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني والإشكاليات التي تعتري بعض تجارب السلطات العربية الإسلامية التي تعمل على تهميش البحث والباحث العلمي، الأمر الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى شعور بعض العقول والكفاءات العلمية بالغربة [ ص: 129 ] في أوطانهم، فتدفع بهم إلى الهجرة سعيا وراء ظروف أكثر حرية واستقرارا في بلدان تتمتع بنظام سياسي يكفل الأمن والحرية في التفكير والبحث والعمل، لاسيما وأن الدول الغربية في زمن العولمة تتبنى سياسات مخططة ومدروسة لجذب العقول والكفاءات من الدول النامية، حيث تهيئ المحيط العلمي الذي يحفز على مواصـلة البحث والتطـوير بحيث يشعر الباحث أو العالم أن ظروف العمل في تلك البلدان تعد وسيلة لتحقيق طموحاته العلمية بما توفره من فرص للبحث العلمي، هذا فضلا عن القوانين التي تحدد أن العلم هو المعيار لدخول الشخص إلى البلاد كما في الولايات المتحدة الأمريكية بدون النظر إلى جنسه أو أصله.

            وتنتهي الدراسة إلى أن العوامل الاجتماعية والمادية والنفسية باتجاهها المعاكس لما كانت عليه في الحضارة الإسلامية، هي التي أدت إلى نزيف العقول الإسلامية وهجرتها إلى الخارج. فليس من شك في أن هذه العوامل تشكل بعدا مهما ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار عند دراسة ظاهرة هجرة العقول الإسلامية المعاصرة، مع ضرورة استدعاء مثيل هذا البعد من الحضارة الإسلامية.

            وتلك هي النتيجة النهائية التي تنتهي إليها هذه الدراسة.

            والله أعلى وأعلم. [ ص: 130 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية