الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الأبعاد الاقتصادية في هجرة الكفاءات

            أسبابها وآثارها

            د. عبد الستار الهيتي

            - المقدمة:

            اقتضت الطبيعة البشرية منذ بدء الخليقة أن يستقر الإنسان مع مجموعة من بني جنسه في منطقة معينة من الأرض تتناسب مع إمكاناته وقدراته، ليتحول هذا التجمع البسيط مع مرور الأيام إلى مكون اجتماعي يمثل الوطن الأم لكل إنسان، يتواصل فيه مع الآخرين، وينصهر في بوتقة تكوينه الديني والثقافي والفكري، وكنتيجة طبيعية لذلك يتفاعل هذا المورد البشري مع الموارد الطبيعية المحيطة به والمتمثلة في الأرض والنبات والمعادن ليستغلها ويقوم باستثمارها وتعميرها، وهو الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61) ، [ ص: 169 ] وبذلك يتم ارتباط الإنسان بالأرض لتكون وطنا له ينتمي إليها وينتسب إلى مجتمعها عرقا ودينا وثقافة وانتماء.

            ومع تزايد الحاجات وتعدد المتطلبات الحياتية وتجدد أنماطها ولدت لدى الإنسان الرغبة في الهجرة من موقع إلى موقع آخر، ومن بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى، طلبا للرزق ورغبة في التطوير، وطموحا للوصول إلى الأفضل، بحيث مثلت تلك الهجرة ظاهرة فردية في بعض الأحيان، وظواهر جماعية في أحيان أخرى، عرفتها البشرية منذ تاريخها القديم، وتواصلت أشكالها مع تطور العصور والأزمان، وها هي اليوم تمثل إحدى ظواهر العصور الحديثة التي نعيشها، وستظل سارية مستمرة ما وجد الإنسان على هذه البسيطة باعتبارها سنة كونية من سنن التكامل البشري والسكاني، وقانونا من قوانينه التي لا تتخلف مهما تغيرت الظروف وتعددت الدوافع.

            نشير هنا إلى أن الهجرة من الأوطان الأصلية إلى الأوطان البديلة ليست في جميع حالتها وليدة الرغبة الذاتية للإنسان، وإنما هي في أغلب حالاتها تحمل معاني القسوة والاضطرار وتنشأ عنها آلام الفرقة والحنين من جهة ومشاكل الاغتراب من جهة أخرى، لكنها مع ذلك تعتبر أحد العوامل المهمة في التقدم الإنساني، وسببا من أسباب التطور الحضاري بجميع مجالاته [ ص: 170 ] العلمية والفنية والأدبية والفكرية، فمن خلالها يتم تلاقح الأفكار وتزاوج الطروحات، ونتيجة لها تتعدد الرؤى وتتفاعل الخبرات والتجارب، مما يعد سببا أساسيا من أسباب النمو الحضاري للأمم والمجتمعات.

            وبالعودة إلى المجتمعات العربية والإسلامية نجد أن للهجرة في التاريخ الإسلامي معاني خاصة ومفاهيم متميزة مرتبطة بالمفاهيم الشرعية والنصوص الدينية التي تحث على الهجرة، وتعتبرها صيغة من صيغ الدعوة ومنهجا من مناهج تبليغ أحكامه وتوصيل تشريعاته إلى الناس كافة، عملا بقوله تعالى: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) (النساء:97)، وعلى هذا الأساس كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، رضوان الله عليهم، من مكة إلى المدينة فتحا للدعوة ونصرا لمفاهيمها، وتوالت بعد ذلك هجرات المسلمين إلى كافة بقاع العالم لنشر الدين مما أسهم في إحداث تلاقح فكري وحضاري بينهم وبين الأمم الأخرى، بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية المرتبطة فيها والتي أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ) (النساء:100)، فهي في المفهوم الإسلامي دعوة إلى الله ونشر لدينه وأحكامه، وسعة في الرزق، وتواصل مع الخلق لغرض التعارف والتفاعل والبناء. [ ص: 171 ]

            ومن خلال هذه المعطيات المتقدمة يتضح لنا أهمية بحث هذا الموضوع ودراسته للوقوف على الأبعاد المختلفة التي تحملها هجرة الكفاءات العربية والإسلامية من بلدانهم الأصلية إلى البلدان والدول الأخرى، وسنحاول هنا التركيز على البعد الاقتصادي لهجرة الكفاءات باعتباره واحدا من الأبعاد المهمة المرتبطة بالهجرة، ودافعا من دوافعها الأساسية، وقد اقتضى ذلك أن توزع هذه الدراسة إلى المباحث التالية:

            المبحث الأول: أسباب ودوافع هجرة الكفاءات العلمية:

            المبحث الثاني: الآثار المترتبة على هجرة الكفاءات العلمية:

            الخاتمة: النتائج والتوصيات:

            أملي كبير أن أكون موفقا في دراسة هذا الموضوع بما يتناسب مع أهميته وخطورته في حياة الأمة وتكوينها المعاصر. [ ص: 172 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية