الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - الآثار الإيجابية لهجرة الكفاءات العلمية:

            مع بروز ظاهرة العولمة وانتشار ثورة المعلومات، حيث أصبح العالم كله قرية واحدة نتيجة للتطور الهائل في وسائل الاتصال، وحيث تميزت السنوات الأخيرة باختزال الزمن وتقارب المسافات، فإنه يمكن النظر إلى هجرة الكفاءات العلمية نظرة موضوعية تختلف عن النظرة التقليدية لها، فهي تحمل اليوم بعضا من الجـوانب الإيجابية ولم تعد جميع جوانبها سلبية ومؤذية، خاصة بعدما أصبح الناس وكأنهم يعيشون في غرفة واحدة، حتى وإن تباعدت ديارهم ومؤسساتهم ومراكزهم العلمية، إذ لم يعد للتكدس السكاني أثر في تكامل المعلومة وتواصلها، حيث يمكن الإفادة من الخبرات العلمية والبحثية والمهنية في أي مكان بالعالم، دون الحاجة إلى الانتقال والهجرة وترك الأوطان.

            وبناء على ذلك فإن هجرة الكفاءات العلمية رغم خطورتها على حاضر ومستقبل الأمم، فإنها لا تخلو من بعض الآثار الإيجابية، ومن أبرزها: [ ص: 193 ]

            1- تنمية العنصر البشري علميا ومهنيا:

            ذلك أن هجرة الكفاءات العلمية تعمل على تفاعل العنصر البشري في البلاد الأصلية مع ما توصلت إليه الحضارة الغربية في بلاد المهجر من العلوم والتقنيات والاختراعات والنظم الإدارية المتطورة، وذلك عن طريق نقل هذه المكتسبات العلمية المتوفرة في بلاد المهجر من قبل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، وتيسير سبل الاستفادة منها.

            وقد أدى ذلك إلى تطوير وتنمية العنصر البشري في البلاد الأصلية، وإلى نشر المكاسب العلمية في أوساط المهتمين في البلاد الأصلية، وتيسير وصولها إليها عن طريق التأليف أو التعليم المباشر، أو من خلال مساعدة المؤسسات المختصة بأي وجه من وجوه المساعدة للحصول على برامج التطوير والتنمية.

            ولعل أبرز الأمثلة على ذلك صناعة المعلوماتية والاتصالات في الهند، فقد أظهرت دراسة علمية أن أبناء الأقلية الهندية المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية يشاركون إلى حد كبير في بناء هذه الصناعة عالميا، وأن هناك عشر شركات من بين العشرين شركة الأكثر تفوقا في إعداد البرامج الإلكترونية عالميا يديرها كفاءات هندية مهاجرة عادوا من الولايات المتحدة الأمريكية أو قاموا هم بتأسيسها

            [1] . [ ص: 194 ]

            2- التحويلات المالية من بلاد المهجر إلى الوطن الأصلي:

            ذلك أن البلدان الأصلية تستفيد ماليا نتيجة عمل أبنائها من ذوي الكفاءات العلمية والمهنية في بلاد المهجر، مما يدفع باتجاه القيام بنشاطات تنموية واستثمارية في الوطن الأصلي، وقد أثبت تقرير البنك الدولي الصادر سنة2006م أن حوالي (200) مائتي مليون شخص من الدول النامية يعيشون خارج أوطانهم الأصلية، وتبلغ تقديرات تحويلاتهم المالية إلى تلك الدول حوالي (225) مائتين وخمسـة وعشرين مـليار دولار فقـط لسنة 2005م [2] ، مما يساهم في إحداث حركة استثمارية داخل الوطن الأم، خاصة إذا علمنا أن هذا الرقم أكثر بكثير من المساعدات الأجنبية التي تتلقاها الدول النامية.

            وقد أوضح تقرير صادر عن بنك النقد الدولي بعنوان "تمويل التنمية العالمي" لعام 2003م "Global Development Finance" أن الحوالات المالية التي يحولها المهاجرون إلى ذويهم من دخل متلقيها ومن احتيـاطي العمـلات الأجنبية في البلد المتلقـي في زيادة مطـردة، وإذا ما استثمرت هذه الأموال بالشكل الصحيح فإنها ستساهم في رفع القدرات الاقتصادية لتلك البلدان، أما إذا استهلكت استهلاكا خدميا فإنها ستحدث تأثيرات سلبية مضاعفة، في الوقت الذي اعتبرت فيه مجلة "نيوزويك" الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 19 يناير 2004م أن الحوالات المالية [ ص: 195 ] التي يحولها المهاجرون إلى ذويهم تعد شكلا جديدا لمساعدة خارجية لتلك الدول التي يتم التحويل إليها

            [3] .

            ومن نتائج هذه التحويلات المالية المساهمة في تقليل حالات الفقر في الأوطان الأصلية للمهاجرين، ذلك أن التحويلات التي تتلقاها الأسر من أبنائها المهاجرين تعمل على تخفيض عمالة الأطفال وتقلل من حالات استغلالهم، وتؤدي إلى زيادة التحاقهم ببرامج التعليم والتدريب، كما أن تلك التحويلات تؤدي إلى زيادة المشاريع الاستثمارية باستخدام رؤوس الأموال القادمة من تحويلات الكفاءات المهاجرة، حيث يشير تقرير الأمم المتحدة أن هذه التحويلات ستتزايد خلال السنوات القادمة، إذ يتوقع أن تصل بحلول عام 2025م إلى (356) ثلاثمائة وستة وخمسين مليار دولار، مما يعتبر مكسبا لا يستهان به للدول الأصلية للمهاجرين، كما يتوقع أن يتم إنفاقها في مجالات تنموية مختلفة كالصحة والتعليم والخدمات التنموية الأخرى

            [4] ، ومما لاشك فيه فإن هذه التحويلات المالية تشكل مصدرا مهما للعملات الصعبة، وتنعكس آثارها على الاقتصاد المحلي للبلدان الأصلية [5] . [ ص: 196 ]

            3- المساهمة في الحد من مشكلة البطالة:

            تساهم هجرة الكفاءات العلمية والمهنية في الحد من مشكلة البطالة في الدول الأصلية، ذلك أن تلك الدول النامية غالبا ما تعاني من ارتفاع معدلات النمو السكاني وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، لذلك تكون الهجرة واحدة من الأسباب التي تعمل على حل ولو مؤقت وجزئي لهذه الظاهرة الخطيرة في مجتمعات الدول النامية.

            4- المساهمة في التقدم الصناعي والتكنولوجي:

            فقد ساهمت الكفاءات العلمية والمهنية إسهاما فاعلا في التقدم الصناعي والتكونولوجي العالمي، وعملت على تسريع حركة التنمية الشاملة في بلاد المهجر وعلى المستوى العالمي أيضا، ولعل أكبر دليل على ذلك حصول بعض العلماء المهاجرين ممن يتمتعون بالكفاءة العلمية على جوائز عالمية متخصصة، ومنها جائزة نوبل، في تخصصاتهم الدقيقة، ونذكر منهم على سبيل المثال الدكتور أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999م لإنجازاته العلمية الهائلة في دراسة ذرات المواد المختلفة.

            5- تحقيق التفاعل الحضاري:

            تؤدي هجرة الكفاءات إلى الانفتاح على (الآخر) والتواصل معه، وكذلك التفاعل الحضاري بين الأمم، إذ يتم الإفادة من الناتج العلمي والتقني للأمم والحضارات الأخرى بسهولة ويسر، حيث يتم من خلالها [ ص: 197 ] استيعاب ما لدى الحضارة الغربية من معارف علمية ومكاسب من منابعها خاصة وأن الفئة المهاجرة تحمل عقولا ناضجة ووعيا علميا متميزا، وهي بذلك تستطيع فرز الأوراق بدقة وغربلة المعارف المكتسبة من الغرب، وتوظيفها توظيفا يتلائم مع عقيدة وقيم الأمة العربية والإسـلامية، والبعد عما يتنافى مع تلك العقيدة والقيم فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية من سياسة واقتصاد واجتماع، وقد قامت المراكز الفكرية الإسلامية الموجودة في بلاد المهجر بهذا الدور التمحيصي لتقديم المعلومة وبما يتفق مع ثقافة الأمة وطروحاتها الفكرية.

            وقد أدى ذلك إلى تحقيق تقارب ثقافي وحوار حضاري بين العالمين الإسلامي والغربي، حيث مثلت الطليعة المسلمة من المثقفين والخبراء جسر علاقة بين الثقافتين والحضارتين، وكان ذلك الخطوة الأولي في حراك التصالح والتفاعل بينهما، والعامل الأساسي في نزع فتيل الصراع الحضاري، ونقله إلى صيغة من صيغ التحاور والتفاعل، الأمر الذي أدى إلى تقديم رسالة الإسلام الإنسانية العالمية بصورتها السمحة ودخولها إلى عمق المجتمعات الغربية، وتقليص أسباب التوتر وسوء التفاهم بين العالم الإسلامي والغربي.

            ومن خلال هذه النتائج الإيجابية للهجرة فإنه يمكن القول: إن بإمكان البلدان الأصلية للمهاجرين أن تفيد من هذا الرصيد المهاجر من الكفاءات العلمية عن طريق الارتقاء بالواقع العربي والإسلامي على جميع المستويات، باعتبار أن الخبراء والعلماء ومواقعهم العلمية ومراكزهم البحثية التي ينتسبون [ ص: 198 ] إليها يمكن أن تكون ميادين خبرة ودراية وتخصص تصب نتائجها في العالم الإسلامي وتساهم بنهضته، وتعمل على مد أوطانهم الأصلية بمقومات تلك النهضة العلمية، ونقل المعارف والتقنيات الفنية والمهنية إلى بلدانهم، لتمكينها من تحقيق حضور علمي وعملي واستشاري في مجتمعها وبين أبنائها.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية