الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            2- منهج تناول ظاهرة هجرة الكفاءات والعقول: المقاربة الاجتماعية:

            الحقيقة أن دراسة ظاهرة الهجرة بأنواعها المختلفة عامة و هجرة العقول والمهارات العلمية على وجه الخصوص، وتأثير ذلك في ثقافات الأمم وحضاراتها ومجتمعاتها، أمر يدخل في صميم الدراسات الاجتماعية، التي ترصد كل الظواهر الاجتـماعية التي تنبع من المجتمع وتؤثر في بنيته وحاضره ومستقبله.

            وما من دراسة لظاهرة اجتماعية إلا وتسبقها العناية بالمفاهيم والمرجعيات النظرية [1] ؛ فالإطار النظري مطلوب في كل معالجة للقضايا والإشكالات الاجتماعية والسياسية، التي تنشأ عما يصيب الأمة من تحولات، تتأثر فيها بنيتها بما يجري داخل الأقطار العربية وخارجها، والمفاهيم المتصلة بالظواهر الاجتماعية الموصوفة إجراءات نظرية مصطنعة للإمساك بتلك الظواهر المتولدة في المجتمع والمؤثرة في حاضره ومستقبله، وإيجاد المفهوم الممسك شرط من شروط دقة التصور المعرفي .

            والحقيقة أن العناية والاهتمام بصوغ المفاهيم الواصفة والمفسرة وتعيين المصطلحات المحددة الموضوعة للدلالة على تلك المفاهيم، كل أولئك [ ص: 138 ] إجراءات معرفية منهجية تهدف إلى إخراج الخطاب الاجتماعي حول ظاهرة معينة (كظاهرة هجرة العقول) إلى حيز الوضوح والدقة، وتجنيبه ظلال المعاني والاحتمالات الملبسة التي يتداخل فيها منطق التسمية مع آليات التأويل. وجدير بمنهج الرعاية المفاهيمية والعناية الاصطلاحية الدقيقة أن ينقلنا من المعرفة إلى مجتمع المعرفة .

            من هذه المصطلحات التي تدل على ما وراءها من مفاهيم محددة: هجرة العقول، وهجرة الأدمغة، وهجرة الكفاءات، وتفلت الكفاءات، وهجرة المهارات، ونزيف العقول، ونزوح العلماء، والوطن الأصلي، وبلد المنشأ، وبلد الوجهة، وبلد المقصد، ووراء كل مصطلح جمهرة من الأفكار والدلالات التي تدور حول القطب المفهومي الرئيس. وكل المفاهيم المشار إليها لا تخرج عن دائرة الظواهر الناشئة في المجتمع، على اعتبار أن المجتمع كل متناسق تربط بين أفراده عناصر التاريخ والثقافة واللغة والهوية، وتتفاعل فيه الأجزاء والعلاقات والأهواء والأغراض المؤلفة له، وهذه العناصر تتفاعل ضمن موقف وضمن إطار زمني ومكاني وظروف وشروط تسهم في تحديد السلوك والاختيارات [2] ، واستيعاب معنى ذلك الموقف أمر ضروري للسلوك الاجتماعي، يعي فيه الفرد قيمته ومكانته بين الأفراد الآخرين، والنتائج المترتبة على السلوك. [ ص: 139 ]

            من هنا يمكن أن نقول: إن هجرة العقول اختيار أو اضطرار يؤدي بالمهاجرين إلى اتخاذ ذلك الموقف، ويؤثر هذا الفعل في شبكة العلاقات الاجتماعية، فيتأثر المجتمع برمته بنتائج الهجرة وما تخلفه من حرمان هذا المجتمع من خدمة العلماء له وتطويره وتنميته، فتكون علاقة العلماء المهاجرين، بمجتمعهم الأصلي نوعا من التفاعل السلبي، ويمتد التأثير إلى الأمة كلها، بما هي تنظيم اجتماعي سياسي لشعب من الشعوب تحكمه قوانين ومؤسسة حكومية.

            وإن العلماء المهاجرين اضطرتهم ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية إلى ترك بلد المنشأ والتخلي عن الروابط التي تشدهم بالجماعة؛ لأن النظام الاجتماعي لم يوفر لهم الاستقرار والعيش الكريم ولم يضمن لهم تنمية قدراتهم، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نعد هجرة العقول ظاهرة فردية محدودة، ونتجاهل أثر القوى الاجتماعية وتأثير البناء الاجتماعي في نشأة الظاهرة وتطورها.

            فالنظرة العـلمية للمشـكلات تستدعي اعتبار العلاقة بين الأوجه المختـلفة للظاهرة الاجتـماعية، ولا يمكن وضع سيـاسة متكاملة لمعالجة مشكلة ما، دون اعتبار كل الأنظمة الأخرى التي تتحكم في جوانب الظاهرة وأوجهها.

            فإذا نظرنا إلى ظاهرة هجرة العقول، على سبيل المثال، فإننا نلفي فيها وجهين اثنين متقابلين؛ أحدهما يتصـل بالمهاجر نفسه والقرار الذي اتخذه [ ص: 140 ] أو اضطر إلى اتخاذه أو اتخذ له قسرا، والوجه الآخر يتصل بالمجتمع الذي يعد المهاجر خيطا في نسيجه العام، فإذا استل ذلك الخيط انحل جزء من النسيج وتهلهل. ومعنى ذلك أننا نعالج الظاهرة بمفهوم اجتماعي محدد هو مفهوم التغير، بوصفه عملية اجتماعية ثقافية اقتصادية، وهذا التغير بمثابة تحول في نظام المجتمع.

            وبناء على هذا المفهوم نجد المهاجر يقدم على هذا التغيير في نمط الحياة الاجتماعية عندما يعزم على الخروج من بلده وهو ينظر إلى التغيير بوصفه تقدما إلى الأمام وتغيرا نحو الأفضل وعاملا من عوامل السعادة وإن أدى إلى اغترابه هو عن وطنه وأرضه، وينظر إليه أيضا بوصفه تطورا طبيعيا خارجا عن إرادة الأفراد، مثله في ذلك مثل التطور الذي يحصل للظواهر الطبيعية بحسب قوانين التطور الطبيعي. ينظر المهاجر أيضا إلى فعل الهجرة بما هي تغيير للواقع وظروفه لتحقيق تنمية وازدهار ووضع مستقبلي تصوره المهاجر سلفا، فالهجرة نمو وارتقاء، وتنمية إرادية.

            ومن الباحثين من استخدم مفاهيم أخرى لها دلالاتها الخاصة في وصف التغير الذي يطرأ على المجتمع، منها مفهوم التحديث، ولكنه بالنسبة إلى هجرة العقول تحديث سلبي؛ لأن هذه الهجرة تنـقل مجتمع المقصد أو المهجر في سلم التحديث على حساب مجتمع المنشأ؛ لأن المهاجر يسهم في بناء مشاريع المجتمعات الغربية التي يهاجر إليها، وتطويرها وتحديثها، وتحضرها وتصنيعها . [ ص: 141 ]

            - أقسام الهجرة:

            تنقسم الهجرات العربية إلى بلاد المهجر إلى:

            - هجرات تجارية؛ فقد رحل كثير من التجار العرب منذ قرون بعيدة إلى جنوب شرق آسيا لتجارة التوابل والأخشاب والنسيج، لكنهم كانوا هناك أقلية، وطبعت هجراتهم بطابع الرحلة والتنقل وعدم الاستقرار والمكث.

            - وهجرات سياسية؛ ومعظـم المهـاجرين العرب لاجئون سياسيا، أو فـارون من قسوة أنظمتهم السياسـية أو فلسطينيون مهجـرون قسرا أو نازحون من وطنهم الأصلي بسبب الاحتلال وتضييق الخناق. وعرفت بلاد المهجر الأمريكية بعدوتيها نزوح كثير من المهاجرين العرب من الشام إليها، دفعهم إلى مغادرة أوطانهم الحروب الأهلية، والبحث عن مستقر آمن لممارسة التجارة أو متابعة الدراسات العليا.

            وما زالت ظاهرة الهجرة السياسية حية نشطة، من الوطن العرب في اتجاه الخارج، وذلك في سياق الاستبداد السياسي، الذي طبعت به بعض الدول العربية، وما يعقب ذلك من رقابة ومتابعة على الفكر والحركة، ومن تقييد للحريات، حرية التفكير وحرية التعبير وحرية الانتماء السياسي، فإذا ما انتقلت الكفاءات المهـاجرة انصهرت في مؤسسات الحكومات المستقبلة أو حكومات المقصد، وخسرتها أوطانها الأصلية أو دول المنشأ التي عجزت عن استيعابها أو أجبرتها على الهجرة، فما كان من العقول العربية التي [ ص: 142 ] وجدت نفسها بين قوة طاردة نابذة وقوة جاذبة محتضنة إلا أن تغادر الوطن وتولي وجهها قبل وطن جديد هو وطن الغربة والمهجر، يتيح لها القدرة على النمو والإبداع، بعيدا عن أجواء القمع والإحباط والإهانة التي تنشرها أنظمة الاستبداد والفساد السياسي .

            - وهجرات علمية: لا يكاد يخلو بلد من البلدان العربية من انتشار ظاهر الابتعاث إلى الخارج والهجرة إلى الخارج، ويغلب أن يكون الابتعاث

            [3] عمليات منظمة تخطط لها الجامعات العربية والأكاديميات ومراكز البحث، حيث تبتعث طلابا وباحثين إلى الخارج لاستكمال دروسهم أو للإفادة من دورات تدريبية في تخصصات معينة، ثم يعود المبتعثون إلى مواطنهم للوفاء بمستلزمات الابتعاث.

            ولكن الملحوظ أن ظاهرة انتشار الهجرة القسرية تفوق الابتعاث وتتفاقم بدرجة عالية، وأبرز حالات الهجرة هجرة ذوي المهارات والخبرات [ ص: 143 ] العالية من العلماء والمهندسين والأطباء [4] وعلماء الفيزياء إلى البلدان الغربية، من أجل العمل في مؤسسات الغرب العلمية ومراكزه البحثية، وهؤلاء المهاجرون تفتح أمامهم أبواب تطوير مهاراتهم وتحقيق أفكارهم ونظرياتهم ويحتفى بهم بما يليق بمكانة العلماء وينالون الحظوة والعطايا، بالقدر الذي يضمن بقاءهم في ديار الغرب، ولا شك بعد ذلك أن تلك المؤسسات المستقبلة تفيـد من أفكار الباحثين والعلماء العرب وتتطور أبحاثها بدرجة عالية، بما يسمح بتطور البحث العلمي عندهم، فيكون هؤلاء المهاجرون وسائل ووسائط وأدوات تخدم مخططات وسياسات غربية وضعتها وزارات التعليم العالي Ens. Sup. ومراكز البحث العلمي والتقني الوطنية C.N.R.S.T في إطار استقدام الكفاءات الدولية البشرية التي تسهم في بناء مؤسسات الدول الغربية العلمية والتقنية والثقافية والاقتصادية.

            وأما الطلاب العرب المبتعثون فكثير منهم ممن تخرج بتفوق يفضل أن يستقر في بلد الهجرة ويستأنف نشاطاته العلمية حيث الأبواب في وجهه [ ص: 144 ] مفتوحة على مصراعيها لتطوير قدراته وكفاءاته العلمية والإفادة من الإمكانات المتاحـة والاستمتاع برواتب مـالية مغرية وتعويضات مريحة. ولا يستثنى من هؤلاء إلا من ابتعث من بلده الأصلي بشرط العودة ونفع الوطن بالخبرة المكتسبة.

            والذي يبدو من عواقب الهجرة أن العقول العربية المهاجرة لا يسد غيرها مسدها، في أوطانها الأصلية، بل تشير التقارير الدولية إلى أن هجرة العقول تؤلف خسارة اقتصادية فادحة وتكلف مبالغ مالية عالية وتؤثر في الاقتصاد القومي تأثيرا سلبيا وفي اقتصاد دول المهجر تأثيرا إيجابيا.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية