الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - أصل التواصل الثقافي مع المخالف الديني:

            لقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته نموذجا عمليا رائعا من التواصل الحضاري والتبادل الثقافي مع المخالف، وذلك من خلال إشراك المخالفين في بعض القيم الثقافية المشتركة، التي تبرز قدرة القيم الحضارية الإسلامية في استيعاب المخالف، نذكر من ذلك على سبيل المثال:

            1- موافقة المخالف الديني:

            كان من هـديه صلى الله عليه وسلم السعي لموافقة المخـالف الديني من أهل الكتاب، ولا يخالفهم إلا فيما لا يسعه إلا أن يخالفهم فيه، فقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء" [1] ، لذلك يمكن تلمس أوجه الموافقة النبوية للمخالف من خلال الأمثلة التالية:

            في التعبديات: فقد سعى النبي صلى الله عليه وسلم ، لموافقة اليهود في صيام عاشوراء ومشاركتهم في فرحهم الديني، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم : ( لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة [ ص: 93 ] وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون ونحن نصومه تعظيما له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن أولى بموسى منكم، ثم أمر بصومه ) [2] .

            في الهندام: فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إبداء الموافقة للمخالف الديني حتى في دقائق الأمور كهيئة الشعر، فقد كان المشركون يفرقون الشعر، وأهل الكتاب يسدلون، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم الإسدال موافقة لهم ثم فرق بعد ذلك موافقة للآخرين [3] .

            ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ، في هذه الموافقة يسعى لوحدة المظهر الثقافي والحضاري لأبناء المجتمع ما وسعه ذلك.

            ولا يعترض على هذا بالنهي عن التشبه بغير المسلمين في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) [4] ، فالنهي محمول على خصوص التشبه بالمخالف في خصوصيته الدينية، أو التشبه في العادات بنفسية منهزمة حضاريا إعجابا واستلابا، أما التشبه بالقوم فيما هو من العادات البشرية التي لا ترتبط بالخصوصية الدينية فهو على أصل الإباحة [5] ، فمدار المسألة في النهاية على المصلحة وانتفاء المفسدة، يقول ابن تيمية: "لو أن المسلم بدار الحرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي [ ص: 94 ] الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية" [6] .

            ومقتضى المصلحة الدعوية الآن في الحفاظ على سنة الموافقة في المظهر الحضاري العام للمجتمع، خصوصا وأن اللباس في مجتمعات العالم الآن يكاد يكون متشابها إلى أبعد الحدود، كما أن الحرص على التميز في اللباس والهيئة عن عامة المجتمع مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يلبس لباس قومه ولا يتميز عنهم، ويفوت مصلحة الدعوة وفرصة التواصل.

            2- حسن المعاملة اليومية للمخالف الديني:

            كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة والمثل الأعلى في حسن معاملة المخالفين والتلطف بهم حتى في التعامل اليومي بما لا يكاد يشعر معه المخالف بالتميز عن المسلمين، نذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

            أ- حسن الاستقبال:

            فقد كان صلى الله عليه وسلم يحسن استقبال المخالفين ويكرمهم وينـزل أكابرهم منـزلتهم، وكان من تمام لطفه وكرمه بالمخالف الديني أن استقبل وفدا من النصارى بمسجده صلى الله عليه وسلم حتى إذا حانت صلاتهم أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في مسجده [7] ، وزار اليهود في بيت المدارس، حيث يتدارسون كتابهم الديني وحاورهم فيها، إلى غيرها من صور المخالطة وتبادل الزيارات في الأماكن المقدسة لدى الطرفين. [ ص: 95 ]

            ب- رد التحية:

            كان النبي صلى الله عليه وسلم يقابل التحية بمثلها للمخالف الديني، وحتى في حالة الخداع في التحية وتحريف الكلم عن مواضعه كما يفعل اليهود، لا ينكر عليهم ولا يعنف وإنما يتأدب معهم في الرد، فعن ( عائشة، رضي الله عنها، قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك ففهمتها، فقلت: عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهلا يا عائشة، فإن الله يحـب الرفق في الأمـر كله، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقد قلت: وعليكم ) [8] .

            فهذا عنف وسوء أدب من المخالف قابله صلى الله عليه وسلم بمنتهى الرفق والفطنة، ونهى عن الرد عـليهم بالعنف، فقال: ( إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم ) [9] .

            أما الخلاف في مبادأة المخالف الديني بالتحية فراجع إلى نوع تعارض بين روايات الحديث الواردة في الموضوع من حيث الإطلاق والتقييد، فحـديث ( لا تبـدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام ) [10] ورد مطلقا، بينما هناك روايتان أخريان مقيدتان بحـالة الحرب، أحـدهما قوله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 96 ] ( إنا غادون إلى يهود فلا تبدءوهم بالسلام، فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليـكم ) [11] ، وثانيهـما قـولـه صلى الله عليه وسلم : ( إنـي راكب غدا إلى اليهود فلا تبدءوهم بالسلام ) [12] .

            وقد ذهب المرحوم فيصل مولوي إلى الجمع بين تلك الروايات لحمل النهي عن الابتداء بالسلام على خصوص حالة الحرب، والإباحة في غيرها [13] .

            ج- التشميت:

            كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يشمت العاطس المسلم إذا حمد الله، ويشمت المخالف إذا عطس بما يناسبه رفقا به وتكريما، فقد "كان اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله، فيقول: ( يهديكم الله ويصلح بالكم ) [14] ، فوسعهم صلى الله عليه وسلم بدعائه الكريم، يرجو لهم أعظم الأمور وهي الهداية والصلاح، ولم يحرمهم من هذا الأدب الرفيع.

            تلك هي بعض معالم المنهاج النبوي التفصيلي في استيعاب المخالفين الدينيين، تبرز كمال خلقه صلى الله عليه وسلم ، ذكرتها بعد بيان معالم التأسيس الكلي لحسن معاملة المخالف واستيعابه حضاريا، أرجو أن أكون قد وفقت في حسن عرضها وبيانها. [ ص: 97 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية