الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            4- ظاهرة الهجرة العربية:

            هجـرة الكفـاءات تعـكس أزمة حامل المعرفة في الوطن العربي، أو عوامل الدفع والجذب في الهجرات:

            ظاهرة هجرة الكفاءات لها تسميات واصطلاحات كثيرة والمسمى واحد، سمي العلماء العرب المهاجرون بالمغتربين، وبالشتات العربي لأنهم نازحون من البلدان العربية إلى بلدان المهجر غير العربية، ممن هاجروا طوعا من بلادهم الأصلية، ومنهم من كان هاجر مضطرا على سبيل اللجوء السياسي، وأغلب دول المهجر من أوربا وأمريكا بعدوتيها، ثم أجزاء من آسيا، وغيرها.

            ويميل كثير من الباحثين المحدثين إلى النظر إلى أنماط الهجرة العالمية، ومنها هجرة العقول والكفاءات، بوصفها أنساقا أو نظما تنجم عن التفاعل بين الظـواهر الكـلية (macro) والظواهر الجزئية (micro). وتشير العوامل الكلية في هذه الحالة، إلى المؤثرات التي تفعل فعلها على الصعيد العام مثل الوضع السياسي في المنطقة والقوانين التي تنظم الهجرات وتضبط التغيرات في الوضع الاقتصادي العالمي. أما العوامل الصغرى فهي التي تكون [ ص: 148 ] ألصق بواقع الناس الذين يعتزمون الهجرة، وهي ما يملكونه من مـوارد بشـرية واجتمـاعية ومعـارف وصنـاعـات وخـبرات في موطنهم الأصلي، وما يتمتعون به من "رأسمال اجتماعي" يقوي التضامن بين المهاجرين في بلد المهجر وبين وطنهم الأصلي [1] .

            وتعد ظاهرة هجرة الخبرات والمهارات العلمية نوعا سلبيا من أنواع التبادل العلمي بين الدول، لأنه يمتاز بنزيف الخبرات وتدفقها في اتجاه الدول المتقدمة، فتستفيد بلدان المهجر من العقول وتتضرر بلدان الوطن الأصلي، وتختل شروط التنمية البشرية التي هي حق من حقوق كل مواطن في بلده؛ لأن من حق كل مواطن - خاصة إذا كان يحمل خبرة أو مهارة أو كفاءة عالية يفيد بها وطنه - أن يستمتع بالحريات العامة، وأن يعيش نمط الحياة التي يختارها وينشدها، إن التنمية البشرية تتجاوز حدود الحاجات الضرورية إلى غايات أخرى تتحقق بها الحياة الكريمة اللائقة [2] .

            والجدير بالذكر أننا لا نتحدث عن مخاطر هجرة الكفاءات العربية إلى أوطان عربية أخرى كبلدان الخليج [3] ، ذلك أن مثل هذه الهجرات قد [ ص: 149 ] أنتجت إسهاما كبيرا في اكتساب المعرفة بين دول منشأ ودول مقصد، تؤلف جميعا وطنا عربيا كبيرا تتعاون أجزاؤه على تبادل الخبرات والمنافع وتسهم في توثيق عرى العلاقات العربية، وفي بناء المجتمع العربي الكبير.

            أما الهجرة إلى الغرب فلا شك أنها تنطوي على اكتساب خبرات ومعارف جديدة، وعلى الانفتاح على أنموذج معرفي أرقى لدى المهاجرين. ولكنه لا ينكر أحد أن هجرة هذه الكفاءات العربية ذات التأهيل العالي إلى الغرب تعد من أخطر الظواهر المؤثرة في جسم الوطن العربي، وامتصاص الغرب لمنافذ المعرفة ونتائجها العلمية والاقتصادية. وفي هذا السياق أورد تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية أرقاما إحصائية تفيد أنه بحلول سنة 1976م، كان قد غادر البلدان العربية نحو ثلاثة وعشرين بالمائة من المهندسين، وخمسين بالمائة من الأطباء، من جميع حملة الشهادات العليا إلى المهجر، فمن أصل ثلاثمائة ألف من خريجي المرحلة الجامعية الأولى في العام الدراسي 1995-1996م يقدر أن نحوا من خمسة وعشرين بالمائة هاجروا إلى أمريكا الشمالية ودول المجموعة الأوربية، وغادر بين عامي 1998 و2000م أكثر من خمسة عشر ألف طبيب عربي إلى الخارج.

            وتقدم لنا قراءة هذه الأرقام خطر حجم هذه الظاهرة وتفاقمها عبر الزمن، فالمتأمل في أسبابها يتبين له كم يتعذر قيام مجتمع عربي للمعرفة، وهي نتيجة أشد على الأمة وأخطر من نزيف الكفاءات وهجرة العقول [ ص: 150 ] ذاتها، فوجود بيئة مجتمعية عربية غير مهيأة لتوظيف الكفاءات العربية في أوطانها وحسن الاستفادة منها عائق يكاد يكون مانعا قيام مجتمع المعرفة المنشود في البلاد العربية. وبزيادة فقد البلاد العربية لكفاءاتها وعقولها المفكرة العالية يزداد ضعف إنتاج المعرفة وقصور الطلب على إنتاجها.

            لقد فرطت فئة كبيرة من المثقفين العرب في استقلال المجال المعرفي، وأدى التفريط إلى هيمنة الأنظمة السياسية على نخبة المثقفين



            [4] ، واستقطابهم وتسخيرهم لخدمة أهدافها، وأفضى هذا الاستقطاب والتسخير [ ص: 151 ] إلى ظهور نزعات تسويغية تسعى إلى منح الشرعية السياسية والتاريخية للسلطة القائمة ودعمها.

            ويلاحظ المراقبون لتطور الساحة الفكرية العربية [5] أن المثقفين العرب الذين تمكنوا من الوصول إلى دائرة صنـع القرار، لم يتمكنوا من ذلك بفضل علمهم أو استقلالهم الفكري، وإنما تمكنوا من الوصول بقدرتهم ومهارتهم في التغلغل والانخراط في السلطة السياسية، وقد ينتهي المطاف بهؤلاء المثقفين خدام السلطة المركزية إلى إهمالهم واستبعاد مشورتهم عندما تتجاوزهم وتحتاج إلى مشورة غيرهم بشأن الخيارات السياسية التي تقوم على الدراية والخبرة والعلم، فتجد السلطة تفضل في مثل هذه الأحوال ولأسباب تاريخية واقتصادية وسياسية استشارة علماء وخبراء من خارج البلد؛ ومعنى ذلك أن هذه الأنظمـة السيـاسية تستبعد التعامل مع المعـرفة الوطنية بوصفها قيمة في حد ذاتها، ولا تعتمد عليها ولا توظفها إلا لتركيز سلطتها، وقد ارتفعت أصوات ثقافية تعبر عن اغتراب الفلسفة والسياسة في المجتمعات العربية، فاعتزل أصحابها أو عزلوا، وكثير منهم من المثقفين الأكاديميين الذين فضلوا الاغتراب المعرفي في أوطانهم الأصلية والانطواء، أو اضطروا إلى الهجرة إلى الخارج، من أجل البحث عن مجال لتنمية المعارف وتطويرها، بعيدا عن أجواء الضغط أو الاحتواء السياسي، وهذا مظهر من مظاهر هجرة العقول العربية. [ ص: 152 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية