الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            المعطيات الحضارية لهجرة الكفاءات

            نخبة من الباحثين

            واقع العقول والكفاءات في الحضارة الإسلامية

            شهد العالم إبان عصور الحضارة الإسلامية ازدهار العلوم والمعارف وتطورها والإبداع فيها، فعلى مدى قرون طويلة تقترب من الألف سنة، كان العلم على مستـوى العالـم ينطق بالعربية، درسا وممارسة وتطبيقا، وذلك إنما يرجع إلى النهضة العلمية غير المسبـوقة في الحضارة الإسـلامية، تلك التي اهتمت بالعـلم وتطبيقه اهتماما لم تشهده حضارة من الحضارات أو أمة من الأمم.

            ولعلماء الحضارة الإسلامية تاريخ حافل بالإنجازات والابتكارات الأصيلة التي أفادت منها الإنسانية جمعاء.

            وجد العلماء وأصحاب العقول في المجتمع الإسلامي البيئة العلمية المناسبة لممارسة العلم والمشجعة على العمل به، وخاصة من قبل الدولة التي تولت رسميا رعاية العلماء والمفكرين. فغلب على الدولة الإسلامية الاهتمام بالعلم وتنشئة العلماء ورعايتهم، وليس أدل على ذلك من انتشار المدارس والجامعات والمعاهد العليا والمكتبات العامة والخاصة في كل أرجاء العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.

            وكانت الخلافة الإسلامية -كما يصف العالم الأمريكي "دريبر" في كتابه "النـزاع بين العلم والدين- ملكا واسعا يفوق المملكة الرومانية بكثير، وكانت مملوءة بالمدارس والكليات، وكان في كل طرف من أطراف هذه [ ص: 105 ] الخلافة الإسلامية مرصد لرصد الكواكب، وكان الأمراء المسلمون يتنافسون في الأقاليم على رعاية العلم والعلماء. ونتيجة تشجيعهم للعلماء انتشر الذوق العلمي في المساحة الشاسعة التي بين سمرقند وبخارى وإلى فاس وقرطبة.

            فمن أوائل أسباب النهضة العلمية التي عاشها العالم الإسلامي: اهتمام الخلفاء والأمراء بالعلم ورعايتهم لأهله وتشجيعهم، ومنهم - على سبيل المثال- الخليفة هارون الرشيد، الذي أصبحت بغداد في عهده كعبة رجال العلم والأدب. وكان هو نفسه من أفاضل الخلفاء وفصحائهم وعلمائهم، يحب الشعر والشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراءاة في الدين. وكان بلاطه يزدان دائما بمجالس العلم، التي كثيرا ما كان يشارك فيها، ففي المجلس الذي عقد بين الكسائي والمفضل بحضرته، بادر الرشيد بافتتاح المجلس، وسأل المفضل: كم اسم في سيكفيكهم الله؟ [1] . وقد سجل لنا الزجاجي في كتابه "مجالس العلماء" كثيرا من المجالس العلمية ومجالس المناظرات التي عقدت بحضرة الرشيد ومنها: مجلس سيبويه مع الكسائي، ومجلس الكسائي مع الأصمعي، ومجلس أبي محمد الزيدي مع الكسائي، ومجلس أبي يوسف صاحب أبي حنيفة مع على بن حمزة.

            فما رأيت -كما يقـول عبد الله بن المبارك- عـالما ولا قارئا للقرآن، ولا سابقا للخيرات ولا حافظا للحرمات في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام [ ص: 106 ] الخلفاء الراشدين والصحابة، إلا زمن الرشيد وأيامه، فلقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثماني سنين، ويستبحر في الفقه والعلم، ويروي الحديث، ويجمع الدواوين، ويناظر المعلمين وهو ابن أحـد عشرة سنة، ولم يكن ذلك إلا بكثرة إنفاقه، واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه منذ الصغر [2] .

            لقد بلغ اهتمام الرشيد بالعلم حدا إلى الدرجة التي معها كان يمتحن العلماء في علمهم، ومن ذلك امتحانه بختيشوع أمام جماعة من الأطباء فقال لبعض الخدم سرا "احضر ماء دابة حتى نختبر الطبيب ونجرب معرفته"، فمضى الخادم وأتى بقارورة فيها بول دابة، فلما رآه قال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا بول إنسان، قال له أبو قريش - وكان من ملازمي مجلس الخليفة- كذبت، هذا ماء حظية الخليفة، فقال بختيشوع: لك أقول أيها الشيخ الكريم لم يبل هذا إنسان البتة، وإن كان الأمر على ما قلت فلعلها أكلت شعيرا. فقال له الخليفة: من أين علمت أنه ليس ببول إنسان؟ فقال له بختيشوع: لأنه ليس له قـوام بول الناس ولا لونه ولا ريحه. قال له الخليفة: بين يدي من قرأت؟ قال له: قدام أبي جورجيـس قرأت. قال له الأطباء: أبوه كان اسمه جورجس ولم يكن في زمانه من يماثله وكان يكرمه أبو جعفر المنصور إكراما شديدا. ثم التفت الخليفة إلى بختيشوع فقال له: ما ترى نطعم [ ص: 107 ] صاحب هذا البول؟ فقال له شعيرا جيدا. فضحك الرشيد وخلع عليه خلعة سنية جليلة ووهب له مالا وافرا، وعينه رئيسا للأطباء.

            وفي وقت لاحق عين ابنه جبرائيل رئيسا للأطباء، وذلك لتفوقه في الطب، وتضلعه باختصاصاته حتى أنه ساهم في تدشين أحد علومه المهمة وهو الطب النفسي أو علم النفس، الذي يدعي الغرب أنه مؤسسه في العصر الحديث!

            كان لهارون الرشيد جارية رفعت يدها فبقيت هكذا لا يمكنها ردها، والأطباء يعالجونها بالتمريخ والأدهان، ولا ينفع ذلك شيئا، فاستدعى جبرائيل بن بختيشوع فقال له الرشيد: أي شيء تعرف عن الطب؟ فقال: أبرد الحار، وأسخن البارد، وأرطب اليابس، وأيبس الرطب الخارج عن الطبع. فضحك الخليفة وقال: هـذا غاية ما يحتـاج إليه في صناعة الطب، ثم شرح له حال الصبية، فقال له جبرائيل: إن لم يسخط علي أمير المؤمنين فلها عندي حيلة، فقال له: وما هي؟ قال: تخرج الجارية إلى هنا بحضرة الجميع حتى أعمل ما أريده، وتمهل علي ولا تعجل بالسخط، فأمر الرشيد بإحضار الجارية فخرجت. وحين رآها جبرائيل عدا إليها ونكس رأسه ومسك زيلها كأنه يريد أن يكشفها، فانزعجت الجارية ومن شدة الحياء والانزعاج استرسلت أعضاؤها، وبسطت يدها إلى أسفل ومسكت زيلها. فقال جبرائيل: قد برئت يا أمير المؤمنين، فقال الرشيد للجارية: أبسطي يدك يمنة ويسرة، ففعلت ذلك، وعجب الرشيد وكل من كان بين يديه.

            يفسـر علم النفس الحـديث حـالة هذه الفتاة على أنـها حالة "فصام Schizophrenia" من نوع يسمى "الفصام التشنجي Catatonia" [ ص: 108 ] أو "الفصام التصلبي Catatonic" الذي يتميز سلوك صاحبه بالتيبس النفسي والجسمي حيث يجلس المريض سـاعات طويلة جامدا لا يتحرك وإذا رفـع يـده أو ذراعـه فإنه يبقيـه لمـدة طويلة كما لو كان منفصلا عن جسمه. لذا تعتبر هذه الحالة إحدى الاضطرابات الحركية ذات الأعراض التكوينية والنفسية. وربمـا تنتج عن الاستثارة المستمرة في منطقة غير محـددة بالمـخ حيث يزداد نشاط "الجاما أمينو بيوتريك أسيد Gamma Amino Butyric Acid (GABA)".

            ويلاحظ أن الطبيب "جبرائيل" قد استخدم ما يعرف حاليا بالعلاج السلوكي "Behavior therapy" الذي يهتم في أبسط حالاته بعلاج العرض الملاحظ، كما استخـدم الفعل المنعكس "Reflex action" الذي لا يصـدر عن المخ وإنما يصدر عن النخاع الشوكي وبالتالي لا يخضع للتفكير الرمزي [3] .

            فتصلب يد الفتاة فعل قسري تعجز عن تغييره بطرق الإقناع العادية، ولذلك فلابد أن يتم علاجه أيضا بظروف تعجز الفتاة عن عدم الاستجابة لها، أى بفعل لا إرادي، وهذا ما فعله جبرائيل وهى طريقة أقرب ما يمكن لطريقة الكف المتبادل حيث أبطلت الاستجابة القديمة بواسطة استجابة جديدة أقوى منها. [ ص: 109 ]

            وإذا كان هارون الرشيد قد وضع الأساس لبيت الحكمة في بغداد لتكون أول دار عامة تجمع شتات العلماء وتجرى عليهم الأرزاق، فإن الخليفة المأمون أكمل بناء الدار ووسعها، وبذل كل ما في وسعه لاقتناء نفائس الكتب المعروفة وقتئذ، ورتب فيها الترجمة والعلماء، ومنهم العالم الخوارزمي مخترع علم الجبر للعالمين. وزادت رعاية المأمون لبيت الحكمة حتى صار باعتراف الغربيين [4] أول مكتبة عامة ذات شأن في العالم الإسلامي، وأول جامعة إسلامية يجتمع فيها العلماء للبحث والدرس. وعلى أثرها انتشرت دور العلم والمكتبات العامة في معظم أقطار العالم الإسلامي.

            أشتهر المأمـون بشغفـه وحبـه للعلم ورعايته لأهله، وليس أدل على ذلك من قـوله: "قد يسمي بعض الناس الشـيء علما وليـس بعلم.. ولو قلت: إن العلم لا يدرك غوره، ولا يسبر قعره، ولا تبلغ غايته، ولا يستقصى أصنافه، ولا يضبط آخره، فالأمر على ما قلت، فإذا فعلت ذلك، كان عدلا وقولا صدقا" [5] .

            واتسم المأمون باحترام وتبجيل العلماء وإكرام منازلهم، فضلا عن مناظرتهم، فقد كان يجلس لمناظرة العلماء والفقهاء يوم الثلاثاء من كل أسبوع، فإذا حضروا، أدخلوا حجرة مفروشة، وقيل لهم: انزعوا أخفافكم، [ ص: 110 ] ثم أحضرت الموائد، وقيل لهم: أصيبوا من الطعام والشراب وجددوا الوضوء.. فإذا فرغوا أتوا بالمجامرة فبخروا وطيبوا، ثم خرجوا، فاستدناهم حتى يدنوا منه، ويناظرهم أحسن مناظرة وأنصفها، فلا يزالون كذلك إلى أن تزول الشمس، ثم تنصب الموائد ثانية فيطعمون وينصرفون [6] .

            وهاك مثال واحد لرعاية المأمون لأسرة علمية كان لها شأو عظيم في النهضة العلمية التي شهدها العالم الإسلامي، وسجلت بإنجازاتها العلمية أروع الصفحات في تاريخ العلم العالمي، ألا وهي أسرة بني موسى بن شاكر (محمد، أحمد، الحسن) أبناء موسى بن شاكر الذي توفي وهم صغار، فتولاهم المأمون وألحقهم ببيت الحكمة تحت إشراف الفلكي المعروف يحيى بن أبي منصور. وظل المأمون يرعاهم حتى شبوا على التعلم، وحتى تخرجوا، ومارسوا العلم، وصاروا من العلماء المبتكرين، وقدموا من الإنجازات العلمية ما أفادت منه البشرية.

            تبدأ التقاليد العربية المدونة في علم الحيل "الميكانيكا" [7] بكتاب "الحيل" لبني موسى بن شاكر، هؤلاء الذين بحثوا في مجالات علمية عدة، [ ص: 111 ] أهمها الهندسة والفلك والجغرافيا، ألا أن أهم وأشهر عمل جماعي لبني موسى هو "كتاب الحيل"، مجلد واحد عجيب نادر يشتمل على كل غريبة وبهذا الكتاب ارتبط اشتهار بني موسى حتى يومنا هذا أكثر من أي كتاب آخر لهـم. ولعل ذلك يرجـع إلى أن عـلم الميكانيكا العربية يبـدأ به، فهو أول كتاب علمي عربي يبحث في الميكانيكا، وذلك لاحتوائه على مائة تركيب ميكانيكي.

            لقد أثر هذا الكتاب في الأجيال اللاحقة لجماعة بني موسى، فبديع الزمان ابن الرزاز الجزري (القرن السادس الهجري) قد استفاد من "كتاب الحيل" في وضع "كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل". كما أفاد "كتاب الحيل" أيضا تقي الدين بن معروف الراصد الدمشقي (القرن العاشر الهجري) في تأليف "كتاب الطرق السنية في الآلات الروحانية". وقد شكلت هذه الكتب مجتمعة حلقة مهمة في سلسلة تاريخ علم الميكانيكا إذ أنها تكشف عن إنجازات العقلية العربية الإسلامية في فترة طويلة من فتراتها.

            وقد امتدت أهمية كتاب الحيل إلى العصر الحديث، وأفاد منه العلم الغربي، الأمر الذي جعل أساتذة أكسفورد الذين وضعوا كتاب "تراث الإسلام" في أربعينيات القرن العشرين يصرحوا بأن عشرين تركيبا ميكانيكيا من محتويات الكتاب ذو قيمة علمية كبيرة. ولم يقتصر تأثير جماعة بني موسى في الغرب على "كتاب الحيل" فنحن مدينون -على رأي كارا [ ص: 112 ] دى فو- بعدد من الكتب لهؤلاء الأشقاء الثلاثة أحدهم في مساحة الأكر وقياس الأسطح ترجمه جيرارد الكريموني إلى اللاتينية بعنوان Liber Thium Frabrum. وقد أسهم هذا الكتاب في تطور الهندسة الأوربية مدة طويلة.

            لقد قدمت جماعة بني موسى من خلال مؤلفاتها إسهامات جليلة في العلوم التي بحثوا فيها. وقد حصر المشتغلون بتاريخ العلوم تلك الإسهامات ومنها: وضع نظرية ارتفاع المياه التي لا تزال تستخدم حتى اليوم في عمل النافورات، اختراع ساعة نحاسية دقيقة، قياس محيط الكرة الأرضية والذي أخرجوه مقتربا من محيطها المعروف حاليا، اختراع تركيب ميكانيكي يسمح للأوعية بأن تمتلئ ذاتيا كلما فرغت، ابتكار طرق لرسم الدوائر الإهليلجية (الدوائر المتداخلة)، تأسيس علم طبقات الجو، تطوير قانون هيرون في معرفة مساحة المثلث. وفي كتبهم أيضا وصف لقناديل ترتفع فيها الفتائل تلقائيا ويصب فيها الزيت ذاتيا ولا يمكن للرياح إطفاؤها. وآلات صائتة تنطلق منها أصوات معينة كلما ارتفع مستوى الماء في الحقول ارتفاعا معينا، ونافورات تندفع مياهها الفوارة على أشكال مختلفة وصور متباينة. ولهم كذلك وصف للآلات الموسيقية ذات الحركة الذاتية مثل الناي. وأجمع مؤرخو العلم على أن هذه الأعمال تدل على عبقرية وذهن متوقد مبدع اتسم به أفراد جماعة بني موسى بن شاكر، وقدموا كجماعة منظمة علمية ومعرفية مهمة شغلت مكانا رئيسا في تاريخ العلم بعامة، وتاريخ التكنولوجيا بخاصة، ومثلت مبادئ التحكم الآلي التي وضعوها أهم الإنجازات التي قامت عليها التقنية والتكنولوجيا الإنسانية. [ ص: 113 ]

            وكان الخليفة الواثق بالله محبا للعلم مكرما لأهله مشرفا على علوم الناس وآرائهم ممن تقدم وتأخر. وكذلك الخليفة المعتضد بالله الذي أشتهر باحترام العلم والعلماء وتقريبهم وجزل العطايا لهم، ومنهم ثابت بن قرة أحد مشاهير علماء الإسلام في الرياضيات والطب الذي بلغ في تحصيل العلوم شأوا عظيما إلى الدرجة التي معها نال تبجيل وتوقير المعتضد له، وليس أدل على ذلك من [8] : أنه طاف معه في بستـان ويد الخليفـة على يد ثابت، فانتزع يده بغتة من يد ثابت، ففزع الأخير، فقال الخليفة: يا ثابت أخطأت حين وضعت يدي على يدك وسهوت، فإن العلم يعلو ولا يعلى عليـه. وكان ثابت يجـلس بحضرته ويحـادثه طويلا ويقبل عليه دون وزرائه وخاصته.

            لقد استمر دور الدولة الإسلامية في الاهتمام بالعلم ورعاية العلماء على مدى عصورها المختلفة، فعلاوة على ما سبق ذكره من سير الخلفاء، فقد أنشأ الخليفة الموحدي الثالث المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن "بيت الطلبة" للنابغين وتولى الإشراف عليه بنفسه، إلى الدرجة التي معها، حسد بعض حـاشيته هـؤلاء الطـلاب على تقـريبه إياهم وخـلوته بـهم دونـهم. كذلك لم يسمع الأمير المعز بن باديس أحد أمراء دولة [ ص: 114 ] الصنهـاجيين في المغرب الإسـلامي بعالـم جليل في أي مصر من الأمصار إلا وأحضره عنده، وبالغ في إكرامه ومنحه أسمى الرتب وجعله من خاصته. كما لم يسمع السلطان محمد الفاتح عن أي عالم في أي مكان أصابه العوز، إلا بادر إليه وأعطاه أكثر مما يحتاج، وبلغت رعايته للعلماء حدا حتى ضمنها وصيته لابنه وهو على فراش الموت، حيث قال: إن العلماء بمنزلة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر، فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.

            وأكرمت الخلافة العثمانية علماءها، وذلك بعد أن عقدت العزم ونجحت في جمع شتاتهم من كل الأمصار، ثم وفرت لهم كل سبل الرعاية، الأمر الذي أدى إلى ازدهار الحركة العلمية والفكرية، وانعكس على تقدم الدولة وتطورها، وجعل منها القوة الأولى في العالم.

            يتبين من كل ما سبق مدى الشوط الكبير الذي قطعه المجتمع الإسلامي، إبان عصور حضارته للحفاظ على العلماء وأصحاب العقول، هؤلاء الذين لم يجدوا أمامهم أي قيود تعوق أو تمنع البحث العلمي، بل على العكس كانت الظروف الاجتماعية والمادية والنفسية مهيأة لهم تماما، الأمر الذي لا تجد معه أي عالم أو صاحب كفاءة قد هاجر وعمل خارج حدود العالم الإسلامي. [ ص: 115 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية