الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - أصل حماية المخالف:

            انطلاقا من مقتضى قصد الله الكوني في التعددية والاختلاف، الذي يقضي بالنظر إلى المخالف معينا على الحقيقة، ومنافسا على الإبداع والإنتاج، كانت قضية حماية المخالف وصيانة مختلف حقوقه مضمونة في ذمة الله ورسوله، وهي أعلى مراتب الضمان على الإطلاق في الشريعة الإسلامية، وقد شملت هذه الحماية ما يلي [1] : [ ص: 81 ]

            1- تأمين حياة المخالف:

            لما كان المخالف جزءا لا يتجزأ من أهل الدار والوطن اقتضى ذلك أن تكون حماية حياته في المجتمع الإسلامي من مسؤولية المسلمين تحت طائلة الوعيد الشديد في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما ) [2] ، ويحرص النبي صلى الله عليه وسلم ، حرصا شديدا على تأمين حياة المخالف مهما كان دينه ومذهبه، فيقول: ( أيما رجل آمن رجلا على ذمته ثم قتله، فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافرا ) [3] .

            ومما يؤكد الوضعية المتميزة للمخالف بين المسلمين زمن النبوة في التكريم والتقدير أن أمنه النبي صلى الله عليه وسلم بأقوى صيغ الإيجاب والإلزام الصريحة، في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة ) [4] .

            ومن فقه هذه النصوص وسواها ما ذهب إليه ابن حزم من أن من كان في الذمة وقصده العدو في بلادنا، وجب الخروج لقتالهم، حتى نموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن تسليمه إهمال لعقد تلك الذمة" [5] . [ ص: 82 ]

            وقرر الشهاب القرافي عموم التأمين لمختلف جوانب حياة المخالف بما ينافي مختلف صور الاعتداء، فيقول : "فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو نوع من أنواع الإذاية أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذمة الإسلام" [6] .

            فتقرير حماية المخالف، واجبا شرعيا في ذمة المسلمين، أفرادا ودولة، بمقتضى النصوص السابقة يجعل المسـلم المواطن في المجتمعات الغربية مصدر أمن وأمان لمصـالح وطنه ومواطنيه أكثر من غـيره كلما التزم بدينه وتقرب لمولاه.

            2- الحماية الدستورية لحقوق المخالف:

            من هديه صلى الله عليه وسلم أن ساوى المسلم مع مخالفه الديني والثقافي أمام القانون المدني والجنائي وأمام القضاء، إلا ما له خصوصية دينية، وهي حقوق ثابتة مقدسة غير قابلة للإلغاء إلا في حالة نقض العهد من قبل المخالف، وهذا الذي تؤكده الصحيفة الدستورية النبوية الناظمة لمجتمع المدينة التعددي: "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشـاهدهم وعيرهم وبعثهم وأمثلتهم، لا يغير ما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم وأمثلتهم، لا يفتن أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا واقه من وقاهيته على ما تحت [ ص: 83 ] أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم رهق ولا دم جـاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش، من سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين بنجران، ومن أكل منهم ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، ولهم على ما في هذه الصحيفة جـوار الله وذمة محمـد النبي أبدا حتى يأتي أمر الله ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مكلفين شيئا بظلم" [7] .

            قال محمد عمارة معلقا على الصحيفة النبوية: "فكانت هذه الوثيقة الدستورية أول عقد اجتماعي وسياسي وديني - حقيقي وليس مفترضا ومتوهما- لا يكتفي بالاعتراف بـ (الآخر) وإنما يجعل (الآخر) جزءا من الرعية والأمـة والدولة... له كل الحقـوق وعليه كل الواجبات، وذلك في زمن لم يكن فيه طرف يعترف بالآخر على وجه التعميم والإطلاق" [8] .

            وتزداد حماية حقوق المخالف قداسة حين ينصب الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه محاميا أمينا للدفاع عنها في محكمة الآخرة بين يدي الله، حيث قال: ( ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ) [9] . [ ص: 84 ]

            فهذه النصوص تؤسس في ثقافة ووعي المسلم وضعا اعتباريا متميزا للمخالف، بحيث يشعر بمسؤوليته الشرعية عن حياته وحقوقه، فيندفع لحماية الوطن وحقوق المواطنين إبراء للذمة وتبليغا لواجب الدعوة من منطلق خدمته والإحسان إليه تعبدا وصدقا لا مجاملة وطمعا.

            3- حماية الحرية الدينية:

            بنى الإسلام مجتمعه ونظامه السياسي على أساس الحرية الدينية، فهو يعرض مبادئه، ويبين أحكامه، والناس بعد ذلك أحرار في قبوله أو رفضه ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (الكهف:29)، ففي ظل الإسلام لا تلغى الديانات الأخرى، ولا يحظر وجود سائر المبادئ والملل، بل يخاطبهم القران الحكيم معترفا بوجودهم، تاركا لهم حرية اختيارهم بناء على مبادئه المؤسسة لحرية التدين والاعتقاد، النافية لأجواء الإكراه والإجبار، كقوله تعالى: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) (البقرة:256) ، وقوله: ( لكم دينكم ولي دين ) (الكافرون:6)، وقوله: ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس:99) ، وقوله: ( فإنما عليك البلاغ المبين ) (النحل:82) ، وسواها من الآيات المقررة للحرية الدينية.

            فكان طبيعيا أن تتولى الوثيقة النبوية الدستورية حماية الحقوق الدينية للمخالفين، وأن تنص بشكل صريح على حق المخـالف في التعبير عن ذاتيته الدينية، بممارسة طقوسه، والعمل بمقتضى شريعته، والاحتفال بأعيادهم الدينية "لا يفـتن أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته"، [ ص: 85 ] كما احتفظت لهم الوثيقة النبوية بحقهم في الاستقلال بالنظام القضائي في أمورهم الخاصة بهم.

            وقد شملت سعة رحمته صلى الله عليه وسلم المشركين أنفسهم حين وقعوا بين يديه في غزوة بدر، فلم يكرهم على الإسلام، وإنما قبل منهم الفداء وتركهم على شركهم [10] ، كما حرر أهل مكة عام الفتح دون إجبارهم على الإسلام، وقد مكنه الله منهم، حين قال لهم: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) [11] .

            ويرى الدكتور يوسف القرضاوي، من المعاصرين، أن من مقتضيات حرية المخالف الدينية كفالة حقه في بناء وإنشاء معابدهم، بل ومساعدة الدولة لهم في ذلك [12] .

            وإجمالا، فإن إقرار هذه الوضعية المتميزة للمخالف في زمن يلغى فيه (الآخر) ويباد، هو ما جعل العالم الإنجليزي "سير توماس أرنولد" يقول عن الحرية الدينية التي أقرها الإسلام: "إن بقاء النصرانية الشرقية هو هبة الإسلام" [13] ، وعليه فصور الظلم والكراهية التي يتعرض لها المسلمون أحيانا [ ص: 86 ] في المجتمعات الغربية لا ينبغي أن يدفعنا ذلك الظلم إلى مخالفة المبدأ الشرعي في معاملة المخالف، وذلك مصداقا لقول الله تعالى: ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة:8)، وقوله سبحانه وهو ينهى المسلمين عن ردود أفعال عدوانية: ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) (المائدة:2).

            التالي السابق


            الخدمات العلمية