مراقبة المؤسسات الدينية الإسلامية
حددت الإدارة الاستعمارية نطاق إنشاء المساجد، فكانت لا تسمح ببناء مسجد إلا لأفراد يحظون بثقتها، وهو القلة بطبيعة الحال؛ وكان الاستعمار يخاف من المسجد خوفه من سائر المؤسسات الإسلامية، فبناء مسجد يعتبر وسيلة لتقدم الإسلام، ولم يخف " فيدريب " تبرمه سنة1855م من هـذا التقدم: " إن الإسلام لدى السود أمر معرقل أمامنا ... لكن في النهاية إن وجد المسجد، فلا رجوع لنا بعدئذ " ، وفي الحقيقة، كما يقول الراهب [1] : " إن من بين الشيوخ في ( سانت لويس ) عددا كبيرا يربون الأطفال على كره العمل والبيض " . [ ص: 87 ]
امتدت يد الاستعمار إلى المحاكم الشرعية للتلاعب بها، وذلك بإنشاء محكمة إسلامية صورية استندت إلى شخص واحد، قال في شأنه " فيدريب " : " لا أجد اليوم من المسلمين إلا فردا يوحي إلي بالثقة الكاملة ... أعتقد أنه من الأحسن أن تراجع السلطة العليا المستعمرة أحكام المحكمة الإسلامية " .
أما عن التضييق على المؤسسات التعليمية فحدث ولا حرج.
كان هـدف المستعمر ضرب الحصار على السنغال حتى لا تتأثر بما يحدث بأقطار إسلامية خارج نطاق مستعمراته؛ لأنه كان يخشى من بلورة فكرة الجماعة الإسلامية على المستعمرة. فأقدم على عزلها عن العالم الخارجي، مما دفعه إلى اختلاق ما يسميه بـ (الإسلام الأسود ) ولكن لم يكن متيسرا تحويل تيار ديني وثقافي دون القيام بعمل مضاد لهذا التيار، لذلك نهضت فرنسا بإنشاء مدارس [2] تنافس مدارس المسلمين ومجالسهم ولكنها كانت -كما قال أحدهم-: " تستهدف غرضا آخر غير أهداف مدارس المسلمين المعارضة دائما، والسائدة في الزوايا ولدى الشيوخ؛ وهذه هـي وحدها الموجودة حتى الآن في الميدان " ولم تترك لتلك المدارس المعارضة للمدارس الأهلية أدنى حرية لأن هـدفها كما حدده فريقه هـو: " توجيه النفوذ الذي يمارسه المسلمون المتعلمون على إخوانهم في الدين لصالح السياسة الفرنسية " وفي الواقع فإن كلمة " العربية " في اصطلاح المستعمر عادلت لفظة الإسلام، ولا عجب حينئذ أن تدخل اللغة العربية، أي الإسلام، في صراع مرير مع السلطات الاستعمارية من جهة ومع لغة المستعمر من جهة ثانية. واتخذت الإدارة الفرنسية إجراءات صارمة تهدف إلى تحطيم الإسلام [ ص: 88 ] ولغة القرآن؛ إذ بدون تلاشيهما لا سبيل إلى تمكن الحضارة النصرانية في المنطقة؛ وكان من جملة الأساليب التي سلكها المسئولون الفرنسيون بهدف تحقيق ذلك: تقليص ظل المعاهد الإسلامية، معاقل الإسلام، فأصدروا قرارات جائرة للحيلولة دون أداء المدارس القرآنية وظيفتها التاريخية، وقد عكست إجراءات الحاكم العسكري ( فيدريب ) هـذا الحيف حين فرض سنة 1857 م على كل من يرغب في فتح مدرسة عربية أن يتقدم لامتحان خاص يهدف لمعرفة مستواه بهذه اللغة، وذلك بدعوى تحسين التعليم الإسلامي واختيار معلمين أكفياء. غير أن الهدف الحقيقي في الواقع هـو الحيلولة دون انتشار لغة القرآن والقضاء عليها عن طريق فرض شروط مفرطة في التعقيد والصعوبة، وانفضحت المؤامرة، إذ لو كانت الإدارة الفرنسية ترغب حقا في تنظيم التعليم الإسلامي لشجعت المدارس الإسلامية. ثم تلت ذلك القرار قرارات مجحفة حيث علق فتح مدرسة إسلامية بالحصول مسبقا على إذن من السلطات الاستعمارية، ورغم تملص ( فروليش ) صاحب كتاب (مسلمي أفريقيا السوداء ) فإنه لم يجد مندوحة من الاعتراف بأن " الرخصة التي كان يخضع لها ألئك الذين يترشحون لفتح مدرسة عربية مرفوضة أحيانا، حينما تظهر سوابق طالب الرخصة ممثلة خطورة للنظام العام " ولا يعني هـذا الكلام سوى أن الرخصة مرفوضة لكل المسلمين؛ لأن الاستعمار كان يرتاب فيهم جميعا؛ إذ يمثلون في نظره خطورة على نظامه.
وللعلة نفسها جهد الاستعمار في قطع كل صلة بين المتعلمين السنغاليين وبين مصادر الثقافة الإسلامية، وكان يمنعهم من ممارسة النطق باللغة العربية والتعامل بها بأي شكل من الأشكال، وبلغ من تعنته أن حاول استبدال اللغات المحلية في المجالس والمدارس باللغة العربية، لهذا [ ص: 89 ] الغرض توجه أحد كبار إدارة الشؤون الإسلامية إلى مدرسة في " سيغو " ( جمهورية مالي اليوم ) فعرض على الشيخ " ديمبا واغي " -مؤسس مدرسة عربية هـناك- تغيير لغة التدريس عن طريق إلقاء الدروس باللغات المحلية، وكان رد الشيخ بارعا ومفحما، إذ رفض الدخول مع الصليبي في مناقشات عقيمة، بل طلب منه أن يأتي التطبيق منه وذلك بتدريس مادة ما أمام الطلبة، فبهت الذي كفر [3] .
وفي نطاق تضييق الخناق على التعليم العربي الإسلامي، جاء مرسوم يحدد الكتب التي يسمح بإدخالها إلى السنغال ، وهذه الكتب هـي: المصاحف وبعض الأدعية الصوفية. فتعليمات الحاكم ( فليام بونتي ) سنة 1911 م قالت: " إن كل نشرة " تمثل شكلا معاديا أو تكون مشجعة نشاط الشيوخ، يجب تحطيمها؛ إذ لا ينبني دورنا بطبيعة الحال على تشجيع نمو العقيدة الإسلامية، ولا على مساعدة الجامعة الإسلامية بل العكس و " ولا ينبغي بالخصوص أن يطلع الأفارقة المسلمون على ما يجري في شمالي أفريقيا والشرق الأوسط حتى لا تصل إليهم عدوى الأفكار الهدامة من النهضة الإسلامية، ونريد كذلك أن نبعد التشجيع على استخدام اللغة العربية " .
وظلت المعركة حامية الوطيس بين الاستعمار والمدارس القرآنية، ولم يحل ذلك دون ازدياد طلبتها باطراد بشهادة " مارتي " أحد أقطاب الاستعمار الذي قام سنة 1918 م بإحصاء تلامذة المدارس العربية بمدينة سانت لويس -AINT LOUIS السنغالية فوجدهم أضعاف تلاميذ المدارس الفرنسية؛ لكن بعد ثلاث عشرة سنة من هـذا الإحصاء رجحت كفة الميزان لصالح اللغة الفرنسية، وتخليدا لهذا الانتصار على اللغة [ ص: 90 ] العربية كتب أحد المفتشين للتعليم الابتدائي سنة 1930 م في تقرير يقول: " انهزمت المدرسة القرآنية " [4] وعندما ظهرت المدارس الحرة في المرحلة الأخيرة من الاستعمار أولت الإدارة الفرنسية الاهتمام للمؤسسات التعليمية النصرانية، وكانت تمدها بكل ما تحتاج إليه، في حين كانت تحرم مدارس المسلمين من كل معونة، وبلغ الأمر إلى حد استنكار بعض النصارى هـذا الإجحاف والتنديد به، فقد استنكر " ألبرتو فود جري " في كتابه: (أفريقيا الثائرة ) تلك الممارسات بقوله: " إن العدالة ليس لها حدود ... وأقصد بقولي هـذا خاصة المسلمين الذين تمنعهم السلطات من فتح المدارس، وإذا سمحت لهم فإنها لا تدخل مدارسهم في باب المساعدات المالية الحكومية التي تعطى للمدارس النصرانية، وإنها قضية إنصاف علينا مواجهتها بجرأة وشجاعة، وإذا تجاهلنا أن الإسلام دين الأغلبية في أفريقيا السوداء وأكدناه بوسائل ملتوية فإن ذلك لن يكون بأي شكل من الأشكال في مصلحة أفريقيا والسلام " [5] .