المبحث الثاني
أهداف تربية الطفل في الإسلام
تعد الأهداف من المباحث المهمة في التربية، وهي تمثل منطلقا للنشاط التربوي في الإسلام، وهي تعكس الرؤى الثقافية للتربويين، فمنهم من يراها فردية واجتماعية، وبعضهم يراها أهدافا دينية واجتماعية وثقافية وعملية، إلى غير ذلك من تقسيمات ترتبط بالمذاهب الفكرية التي يعتنقها المربون المسلمون، فالقابسي مثلا يرى أن الغرض من التربية معرفة الدين، علما وعملا، وذلك مرتبط بكونه فقيها محدثا، والغزالي يتجه إلى تدريب الدارسين على الوصول إلى معرفة الله ويهتم بمجاهدة النفس ورياضتها.
وفي ضوء عناية الإسلام بالتربية وأهدافها فقد أمكن تصنيفها إلى: هدف عام وأهداف فرعية، على النحو الآتي:
1- الهدف العام: عبادة الله:
تهدف التربية الإسـلامية إلى تنشئة وإعداد الإنسان ليكون مسلما عابدا عـالما عاملا مؤتمرا بأوامر الله ومنتهيا عن نواهيه، تأسيا بقوله تعالى:
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56).
وعبادتـه تكون بالعـلم، وكـذلك خشيـته، كما قـال تعـالى:
( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:28). [ ص: 72 ]
2- أهداف فرعية:
أ- تربية الأبناء عقديا
قال تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات: 56)،
فالإنسان لم يخلق إلا للعبادة، ونشاطاته التي يقرها الإسلام لا تخرج عن نطاق العبادة، وليست العبادة التي خلق الله الإنسان لأجلها محصورة في الشعائر فقط وإلا كانت التربية الإسلامية تربية أخروية لا تهتم بغير الآخرة والعبادات المتعلقة بها.
ولما كانت التربية الإسلامية تربية للدنيا والآخرة معا فإن العبادة في الآية الكريمة هي، كما يقول ابن تيمية : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار والمسكين وابن السبيل والدعاء والذكر وأمثال ذلك من العبادة، فكل ما أمر الله من الأسباب فهو عبادة، وهكذا ينبغي تربية الأبناء عقديا، ومن متطلبات ذلك أن يتعمق في قلب الابن مراقبة الله عز وجل وتعظيمه، وأن يربط الابن بين معنى العبودية والتصرفات الحياتية كالأكل والشرب والنوم والمدرسة، وأن يؤدي الابن الصلاة كاملة، وأن يتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وأن يتعرف على حياة النبي صلى الله عليه وسلم. [ ص: 73 ]
- ترسيخ حب النبي عز وجل
يجب على المربي ترسيخ حب النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته في نفس الطفل؛ لأن مشاعر الطفل تتحرك بهذا الحب، فالطفل خاصة يحب أن يتشبه بأقوى شخصية حوله ليقتدي به، ونحن في مجال التربية الإسلامية للطفل ينبغي بداية ونهاية أن نرسخ حب الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الطفل ليتشبه به، فهو القدوة الثابتة، وهو أكمل البشر، فعن أنس ، رضي الله عنه، ( أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعـة فقـال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها، قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم ) [1] .
ومعلوم أن أي شخص يحب شخصـا آخر فهو يحاول الاقتداء به، حيث نرى البنت تحاول الاقتداء بأمها والولد يحاول الاقتداء بأبيه ويقلده، فمن الأولى ترسيخ محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس الأطفال ليقلدوه ويقتدوا به ويكون هو مثلهم الأعلى، فقد رأينا الصحابة، رضوان الله عليهم، كيف اكتسبوا محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف أصبح عندهم أغلى من كل شيء، وبالتالي اتصفوا بسرعة الاستجابة لندائه وتنفيذ أوامره، وهذا برهان ودليل على هذا الحب كما رأينا في سرعة مبايعة أطفال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم وقتال الأطفال [ ص: 74 ] لمن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وحب أطفال الصحابة لمن يحب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الخمسة، وهذا لفظ البخاري ، عن أنس ، رضي الله عنه، قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على غلام له خياط فقدم إليه قصعة فيها ثريد قال: وأقبل على عمله -يعني الغلام- قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء -يعني القرع- قال: فجعلت أتتبعه فأضعه بين يديه، قال: فما زلت بعد أحب الدباء.
وكذلك نرى حفظ أطفال الصحابة، رضوان الله عليهم، والسلف للأحاديث النبوية، وحرص الصحابة على تدريس الأطفال السيرة النبوية، ومدى تأثيرها فيهم وحفظهم لأوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم.
كل ذلك ترسيخا لمحبته وبالتالي الاقتداء به؛ لأنه المربي الأعظم على مر التاريخ، ولأن محبته منـزلة عالية من منازل الإيمان، بل أن المرء لن يتذوق حلاوة الإيمان ولذته حتى يحقق هذا الأمر، فقد روى أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيـه وجـد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) [2] .
ولكن لا بد أن يسأل كل مربي: كيف نرسخ حب الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس أطفالنا؟ إن تربية الأولاد على حب الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تأخذ الخطوات التالية: [ ص: 75 ]
1- بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة والمثل الأعلى لكل البشرية، وذلك عن طريق سرد سيرته العطرة من أحد الكتب المحببة للنفس، مثل: الرحيق المختوم أو زاد المعاد، فيتأسى الولد بمواقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويتفاعل معها وكأنه يعايشها فتصير له سجية.
2- بيان أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي عنوان طاعة الله، وأن من أراد أن يدخل الجنة لا بد له من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقوم المربي بأداء ذلك عمليا أمام أولاده فيأتي بالسنن والنوافل ثم يقول لأولاده: هكذا كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يرسخ هذه الطاعة بتعليم الأولاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يحبهم إذا فعلوا الطاعة وسوف يشفع لهم يوم القيامة فيقوى بذلك إيمانهم وطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- يقوم المربي برواية أخبار أولاد الصحابة، رضي الله عنهم، وصغار السن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول شيء في حياتهم، يروي لهم كيف قاتل معوذ ومعاذ ابنا عفراء الكفار وهما ما زالا أولادا وقتلوا أبا جهل ؛ لأنه كان يسب الرسول صلى الله عليه وسلم وقصة زيد بن أرقم ، رضي الله عنه، الذي لم يتحمل قلبه الصغير أن يسب الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول فحملها للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقتص منه، فيتعلم من هذه المواقف كيف يطيع الرسول صلى الله عليه وسلم ويحبه.
ولا يفوتنا في ترسيخ حب الرسول صلى الله عليه وسلم أن نراعي أن يكون ذلك عبر القصص الكثيرة والمعبرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تكون لغتنا قريبة لمستوى النمو لدى الطفل، فلا تكون الألفاظ صعبة لا يستطيع فهمها، والاكتفاء [ ص: 76 ] بالأمور التي تتناسب مع مستواه العقلي لكي يحسن استيعابها ويتمسك من خلالها بالرسول صلى الله عليه وسلم [3] .
فنجد تربيته صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأبنائهم بعدة وسائل نوعها، عليه الصلاة والسلام، لكي تلبي حاجات ومتطلبات النمو التي تناسب المرحلة العمرية التي يعيشونها وطبيعة الفروق الفردية والظروف البيئية، وقد عني القرآن الكريم قبل ذلك بتنوع الأساليب التربوية التي تناسب المراحل العمرية.
ب- تربية الأبناء خلقيا
ينبغي تربية الأبناء خلقيا وتزكية نفوسهم واستقامة سلوكهم على عمل الطاعات والخيرات والتزام الإخلاص، التي ترقى بهم في الحياة الدنيا وتحقق لهم السعادة في الآخرة مثل الصدق والأمانة والوفاء والعفة؛ والأهداف الخلقية تؤكد:
1- تربية الإنسان المسلم على ممارسة السلوك الذي يعكس الأخلاق الإسلامية.
2- تربية المسلم على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه، قولا وفعلا وصفات، فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن،
قال تعالى: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم:4).
3- تربية ضمير المسلم على حسن المراقبة لله عز وجل.
4- تزكية النفس وتنقيتها مما يشوبها. [ ص: 77 ]
وهذا يتطلب تربية الأبناء منذ نعومة أظفارهم على عفة اللسان واعتياد الألفاظ المهذبة في التعامل مع الوالدين والمحيطين ليتكون لديهم الخلق الرفيع؛ وللقدوة الوالدية أكبر الأثر في تحقيق ذلك.
وهذه التربية الخلقية تعد حقا من حقوق الأبناء؛ لأن ذلك ينعكس على المجتمع المسلم فتسود الألفة وتنتشر المحبة بين أفراد المجتمع فضلا عن سيادة الأمن وسلامة المجتمع من الأمراض النفسية التي تعانيها المجتمعات غير المسلمة؛ كما أن انتشار الأخلاق الفاضلة بين أفراد المجتمع يرغب غير المسلمين ممن يعيشون في بلادنا فيقبلون على الإسلام ويعتنقونه.
ج- تربية الأبناء اجتماعيا
تعنى الأهداف الاجتماعية للتربية الإسلامية بتنمية الشعور الجماعي لدى المسلم، وترسيخ إحساسه بالانتماء إلى مجتمعه، بحيث يهتم بقضاياه وهمومه، ويرتبط مع أفراده برباط الأخوة والألفة والمحبة، ويحدث التكافل الاجتماعي معهم في علاقات يسودها التراحم والتعاطف، ويغلب عليها الإيثار والكرم وصلة الرحم وإصلاح ذات البين والإحسان إلى الآخرين واحترام الكبير والعطف على الصغير والرعاية لليتيم والعطف على الأرملة والمسكين والمشاركة الوجدانية للمسلمين في أفراحهم وأتراحهم، فلا مجال للسخرية أو سوء الظن، هذا وغيره كثير من الجوانب الاجتماعية التي تؤكدها التربية الإسلامية، وهذا يتطلب تعريف الأطفال بإخوانهم البائسين والمضطهدين وحثهم على الإنفاق والبذل، فهذه التربية الاجتماعية تساعد على خلو المجتمع من الأمراض الاجتماعية مثل الجريمة والحسد والسحر والبغضاء والعقوق وقطيعة الرحم. [ ص: 78 ] د- تربية الأبناء نفسيا وعاطفيا
وهي أهداف تعنى بمشاعر الطفل وتقدير نفسيته، وتؤكد احترام شخصيته ليكون شخصا فاعلا ونافعا في مجتمعه وأمته، وليكون إيجابيا واثقا من نفسه يتحمل المسؤولية.. والارتقاء بنفسية الطفل وتربيته عاطفيا يتطلب احترامه، وعدم إهانته أمام زملائه، وحسن الاستماع إليه، وإشعاره بأهميته وتوجيهه برفق.
هـ- تربية الأبناء جسميا
عني الإسلام عناية بالغة بقوة أبنائه وسلامة أبدانهم، وقد وجه القرآن الكريم والسنة النبوية إلى ذلك، ويظهر ذلك واضحا من خلال توجيهات الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه، عندما كتب لولاة الأمصار بأن يعلموا أولادهم السباحة والفروسية والرياضة البدنية والمهارة الحربية والعناية باللغة العربية ورواية الأمثال السائدة والشعر الحسن، ومن أقوالهم: " علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل " .
ومن مظاهر اهتمام الراشدين، رضي الله عنهم، بالتربية الجسمية عنايتهم بالرياضة البدنية وحثهم على ممارستها لما لها من أثر في قوة الجسم وقدرته على القيام بوظائفه العبادية والمعيشية.
فقد روي أن أبا بكر ، رضي الله عنه، كان يمارس السباق بالأقدام والمسابقة بالخيل، كما كان فارسا يتميز بالشجاعة وثبات القلب حتى وصف بأنه أشجع الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم [4] . [ ص: 79 ]