الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        6- التربية بالعادة:

        العادة تؤدي مهمة خطيرة في حياة البشرية، فهي توفر متسعا كبيرا من الجهد البشري بتحويله إلى عادة سهلة ميسرة.

        والإسلام يستخدم العادة وسيلة من وسائل التربية، فيحول الخير كله إلى عادة تقوم بها النفس بغير جهد وبغير مقاومة، وفي الوقت ذاته يحول دون [ ص: 120 ] الآلية الجامدة في الآداء بالتذكير الدائم بالهدف المقصود من العادة والربط الحي بين القلب البشري وبين الله.

        وقد بدأ الإسلام، وهو ينشأ في الجاهلية، بإزالة العادات السيئة التي وجدها سائدة في البيئة العربية، واتخذ لذلك إحدى وسيلتين إما القطع الحاسم الفاصل وإما التدرج البطيء حسب نوع العادة التي يعالجها وطريقة تمكنها في النفس، فكل عادة تتصل بأصل التصور والعقيدة والارتباط المباشر بالله فقد قطعها قطعا حاسما من أول لحظة، فهي كالأورام الخبيثة في الجسم ينبغي أن تستأصل من جذورها وإلا فلا حياة.

        فالشرك وعادة وأد البنات والكذب والغيبة والنميمة كان لا بد من مواجهتها مواجهة حاسمة، أما العادات الاجتماعية التي لا تقوم على مشاعر الفرد وحدها وإنما ترتبط بأحوال اجتماعية واقتصادية متشابكة فقد لجأ فيها إلى التدرج البطيء مع استمرار الوعظ والتوجيه.

        والإسلام يلجأ في ذلك إلى إثارة الوجدان، وإنشاء الرغبة في العمل، ثم يحول الرغبة إلى عمل واقعي ذي صورة محددة واضحة، ثم يحول الرغبة والعمل من مسألة فردية إلى رباط اجتماعي؛ فالصلاة رغبة في الاتصال بالله والدعاء إليه فيحول هذه الرغبة إلى عمل محدد ذي حدود ثم ينظمها في أوقات محددة، والزكاة رغبة في التحرر من الشح والعطف على المحتاج والتعاون مع الجماعة فتتحول الرغبة إلى عمل محدد ذي نسبة معينة وأوقات محددة، ثم يحول العمل الفردي إلى نظام تقوم عليه الدولة والمجتمع. [ ص: 121 ]

        إن الهدف هو ربط القلوب دائما بالله في كل حادثة وكل قصة وكل شعور، والمجال دائما مفتوح أمام كل مرب له عين مفتوحة وقلب واع وإدراك بصير، إنه يستطيع أن يدرك اللحظة المناسبة للتوجيه، عندئذ يعقد العقدة الوثيقة التي لا تنحل ويطبع الطابع العميق الذي لا يزول [1] .

        إن رعاية اكتساب العادات من الطرائق التربوية الأصيلة في حياتنا الإسلامية، كما قال الشاعر:


        وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه



        فاكتساب العادة عموما أمر سهل تربويا؛ لأن ميول التقليد والاندماج والمشاركة النفسية الوجدانية للصغار تساعدهم على التقبل والامتصاص لكل ما حولهم من عادات، أما تصحيح العادة بعد أن رسخت أو تغييرها بعد أن استحكمت فهذا أمر يحتاج إلى قناعة ذاتية وإرادة قوية واستمرار، لذا كانت التربية الناجحة هي التي تعتني أولا باكتساب العادة الحسنة لتكون وسيلة لسعادة الإنسان واستقامته؛ والإنسان يجب أن يعيد النظر في بعض عاداته السلوكية والقولية والانفعالية وعادات أبنائه، فما وجـده سليما مستقيما حمد الله واستمر عليه وما وجـده منحرفا أصلح نفسه وقوم سلوكه؛ والطفل بفضل ما زوده الله به من ذكاء وإحساس وإدراك يستطيع في حياته المبكرة وقبل المدرسة أن يتعلم بنفسه الكثير من السلوك والكلام والانفعال والمفاهيم والقيم. [ ص: 122 ]

        فعملية التنشئة تستمد مقوماتها من عمليات تربوية أخرى مندرجة فيها في التعلم والتعليم والتعويد والتقليد والمشاركة الوجدانية [2] .

        وخير ما نقلده ونقتبس منه ونتعود منه العادات السليمة هو محمد صلى الله عليه وسلم فقد رسم منهجا تربويا رائعا في جميع العادات والعبادات، التي عملت على استقامة أبناء الصحابة في وقته؛ لأن مرحلة الطفولة هي من أهم المراحل العمرية في غرس قيم الخير والفضيلة، فسنته صلى الله عليه وسلم مليئة بالتوجيهات التي عنيت بتنشئة الصغار وتعويدهم على العبادة والاستقامة.

        وكذلك كان السلف الصالح يحرصون على تعويد أولادهم على العبادات والآداب الإسلامية، فقد كان الحكماء يقولون: الصلاح من الله والأدب من الآباء؛ وفي الصلاة يقول عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه: "حافظوا على أبنائكم في الصلاة وعودوهم الخير فإن الخير عادة ". وكان عروة يأمر بنيه بالصلاة إذا عقلوها، وبالصوم إذا طاقوه.

        وكان علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جمعا والمغرب والعشاء جمعا، فيقال له: يصلون الصلاة لغير وقتها، فيقول: هذا خير من أن يتناهوا عنها [3] .

        أما في الصيـام، ( فعـن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: من كان [ ص: 123 ] أصبح صـائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفـطرا فليتم بقية يومه فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار ) [4] .

        وفي هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات وتعويدهم على العبادات، قال عمر ، رضي الله عنه، لنشوان [5] قد أفطر في نهار رمضان: "ويلك وصبياننا صيام" فضربه.

        فالصيام عبادة جسدية يتعلم منها الطفل الإخلاص الحقيقي لله ومراقبته لله في السر، وتتربى إرادة الطفل بالبعد عن الطعام رغم الجوع والبعد عن الماء رغم العطش. ويتعود على الصبر والجلد ويتذكر به إخوانه الجائعين.

        فالأحاديث التي ذكرت في صوم الصبيان فيها حجة على مشروعية تمرين الصبيان عليه، والترغيب فيه، وكما حث الإسلام على تعويد الأبناء الصلاة والصيام حث على التدريب على الحج وأنه من أركان الإسلام الخمسة، فقد روى مسلم عن ابن عباس ، رضي الله عنهما، قال: ( رفعت امرأة صبيا لها فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر ) ، قال ابن بطال : أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ، إلا أنه إذا حج به كان له تطوعا عند الجمهور . [ ص: 124 ]

        وقال أبو حنيفة : لا يصح إحرامه، ولا يلزمه بفعل شيء من محظورات الإحرام، وإنما يحج به على جهة التدريب .

        وروى أحمد والبخاري والترمذي وصححه عن السائب بن يزيد قال: ( حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين ) [6] .

        وعن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما، قال: ( أقبلت وقد ناهزت الحلم أسير على أتان لي ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بمنى حتى سرت بين يدي بعض الصف الأول ثم نزلت عنها فرتعت فصففت مع الناس وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وقال يونس عن ابن شهاب : بمنى في حجة الوداع ) [7] .

        وروى ابن السني عن ابن عمر ، رضي الله عنهما، قال: ( جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد الحج، فمشى معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام زودك الله التقوى، ووجهك في الخير، وكفاك الهم، فلما رجع الغلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام قبل الله حجك، وغفر ذنبك، وأخلف نفقتك ) [8] . فهذا الحديث يدل على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الركن بالنسبة للأطفال، حيث إنه يمشي معهم ويدعو لهم منهج التربية النبوية للطفل، مرجع سابق، 226. . وروي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى ) [9] . [ ص: 125 ]

        هذه الأحاديث كلها تدل على اهتمام وعناية الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب وتعليم الأطفال العبادات منذ صغرهم، وأن ما يقومون به من هذه العبادات هو تمرين لهم وهم يكتسبون الأجر عليه كما يكتسب مربوهم هذا الأجر.

        وكذلك لركن الزكاة نصيب من تعليمها الرسول صلى الله عليه وسلم الأبناء وتعويدهم عليها وتعويدهم على البذل والعطاء والشفقة بالفقراء والمحتاجين، فبنفقتهم وعطائهم للمساكين تتهيأ نفوسهم لدفع الزكاة.

        فقد أخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب ، رحمه الله، عن أبيه عن جده ( أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهـما يوم القيـامة سوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي ( وقالت: هما لله عز وجل ولرسوله ) .

        وعن زكاة الفطر أخرج البخاري ومسلم ومالك والنسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما، قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير ) .. ومن هنا نجد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إعطاء الزكاة لمستحقيها وتعويد الأبناء على الصدقة؛ وأما زكاة الفطر فوضح أنها واجبة على الكبير والصغير، فهي طهرة لأموالهم.

        ومن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته على تعليم وتعويد الأبناء العبادات حرصهم الشديد على تعليم وتحفيظ وتلاوة كتاب الله عز وجل، فهو من أجل الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الوالدان، فحفظه فيه حفظ للأوقات [ ص: 126 ] وشرف للأبناء والبنات وحفظ من الضياع والانحراف، فإذا هم تعلموه وحفظوه أثر ذلك في سلوكهم، فهو دستور الأمة وأساس بنيانها، وبالقرآن أنقذت هذه الأمة من الظلمات والضياع والتخبط، فلذلك كان أول ما عني به شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن وحفظه وتعلمه.

        فهذا أنس ، رضي الله عنه، يشهد مع معاذ لزيد بن ثابت ، رضي الله عنهما، أنه قد وعى القرآن وجمعه، فيقول: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار أبي، ومعاذ بن جبل وأبو زيد وزيد بن ثابت.

        وكان عمرو بن سلمة ، وهو من صغار الصحابة، حريصا على تلقي القرآن فكان يتلقي الركبان ويسألهم ويستقرئهم حتى فاق قومه أجمع.

        وكذلك البراء بن عازب ، رضي الله عنه، جاوز العاشرة بقليل يقول: ( فلم يقدم علينا رسول صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورة من المفصل ) ؛ وابن عباس ، رضي الله عنهما، يقول عن نفسه: ( توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم ) [10] .

        ويقول في رواية أخرى عن نفسه: "سلوني عن التفسير فإني حفظت القرآن وأنا صغير " .. كل ذلك تربية من الرسول صلى الله عليه وسلم لأبناء الصحابة، الذين كان يحثهم على حفظ القرآن وتعلمه وتلاوته فامتثلوا سنته حيث قال صلى الله عليه وسلم: ( مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران ) [11] . [ ص: 127 ]

        فهذه النصوص وغيرها كانت تدفع أبناء الصحابة للعناية بالقرآن وتعلمه وتعاهده، فما أجدر بأبنائنا بالسير على نهجهم واقتفاء أثرهم [12] .

        وينبغي لولي الصغير والصغيرة أن يبدأ بتعليمهما القرآن منذ الصغر، وذلك ليتوجها إلى اعتقاد أن الله تعالى هو ربهم، وأن هذا كلامه، وتسري روح القرآن في قلوبهم، ونوره في أفكارهم ومداركهم وحواسهم، وليتلقنا عقائد القرآن منذ الصغر، وأن ينشأ ويشب على محبة القرآن والتعلق به والائتمار بأوامره والانتهـاء عن مناهيه والتخلق بأخلاقه والسير على منهاجه، قال الحافظ السيوطي : تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام، فينشـأون على الفـطرة ويسبق على قلوبـهم أنواع الحكمة قبل تمكن الأهواء منها وسوادها بأكدار المعصية والضلال ؛ وأكد ابن خلـدون هذا المفهوم بقولـه: «تعليم الولـدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهالي الملـة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق إلى القلوب من رسـوخ الإيمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي يبنى عليه ما يحصل به من الملكات» [13] . فمن أبرز وسائل تحقيق التربية الإيمانية للأبناء ربطهم بالقرآن حفظا وتعليما، لحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك،

        قال تعالى: ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) (الإسراء: 9). [ ص: 128 ]

        وقال صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب؛ ومثل المؤمن الذي لا يقـرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ) [14] .

        وليقين السلف والعلماء والمربين بفضل القرآن في تكوين جيل صالح يحمل تبعات هذه الأمة فقد أكدوا تعليمه للصبيان منذ الصغر، ومن شدة حرصهم على ارتباط أولادهم بالقرآن فقد كانوا يتحينون أوقات نزول هذه البركات القرآنية فيجمعون أولادهم عليها، فعن ثابت قال: "كان أنس إذا ختم القرآن جمع ولده وأهل بيته فدعا لهم " .

        والقرآن يفيض بالتربية التي تهدف إلى تكوين الشخصية السوية وإيجاد العناصر الرئيسة المكونة لها، وقد أجريت دراسة حول إمكانية وجود علاقة بين مدى حفظ القرآن ومستوى الأداء لمهارات القراءة لدى تلاميذ الصف السادس الابتدائي بمدينة الرياض ، وأسفرت النتائج عن وجود علاقة إيجابية قوية بين مدى حفظ القرآن وتلاوته ومستوى أداء التلاميذ لمهارتي القراءة الجهرية وفهم المقروء [15] .

        والقرآن الكريم له تأثير كبـير على النفس البشرية عامة، كلما اشتدت النفس صفـاء كلمـا ازدادت تأثرا، والطـفل أقوى الناس صفاء وفطرته ما زالت نقية. [ ص: 129 ]

        ومن تأثيرات القرآن في نفس الطفل حينما يعايشه ترتيلا وفهما يستطيع هذا الطفل أن يحل كثيرا من مشاكله الاعتقادية والنفسية، وأن يقوم سلوكه، وأن يهدئ انفعالاته العصبية، وأن يوسع من ذاكرته.

        وذكر المغراوي في كتابه [16] : «أول ما ينبغي للمؤدب أن يعلم الصبي السور القصار من القرآن بعد حذقه بمعرفة الحروف وضبطها بالشكل، ويدرجه بذلك حتى يألفه طبعه، ثم يعرفه عقائد أهل السنة والجماعة» .

        وأعلم أنها أجل المعايش لقوله صلى الله عليه وسلم: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) [17] والقرآن كلام الله المعجز، وهو الكتاب المقدس في الإسلام، والمصدر الأول والأساس لأحكام الشريعة الإسلامية، ودستور الأمة في جميع نواحي الحياة، في العقائد والعبادات والمعاملات والتربية، وفي كل أمر من أمور الحياة وإضافة إلى ذلك نجد القرآن الكريم ينتهج في تربية الإنسان مناهج تربوية عظيمة، فقد خاطب العقل وحاسب السرائر وأدب الحواس وهذب الإنسان [18] .

        وهناك نماذج من أطفال السلف حفظوا القرآن نضعها بين يدي الوالدين والأبناء لتكون وسيلة في استنهاض الهمم وشحن النفوس نحو [ ص: 130 ] الاهتمام بحفظ القرآن الكريم، ولتكون أداة فعالة في تنشيط العقول وتحريكها للتغذي بهذا المنهل العذب [19] .

        1- يقول الشافعي : حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر .

        وينبغي أن يتعلم تعظيم القرآن، حيث إن تعظيم العلم تعظيما للقرآن الكريم.

        وينبغي له ألا يأخذ الكتاب إلا بطهارة، حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي أنه كان مبطونا وكان يكرر في ليلة فتوضأ في تلك الليلة سبع عشرة مرة، لأنه كان لا يكرر إلا بطهارة، وهنا لأن العلم نور والوضوء نور فيزداد نور العلم به؛ ومن التعظيم الواجب يمد الرجل إلى الكتاب ويضعه فوق الكتب وأن يقرأ بالبسملة ويستقبل القبلة [20] .

        2- يقول عبد الله التستري : فمضيت إلى الكتاب فتعلمت القرآن وحفظته وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين [21] .

        3- أما الإمام النووي ، رحمه الله، فيقول الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي عنه: رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى والصبيان يكرهونه على اللعب معهم وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم ويقرأ القرآن في تلك [ ص: 131 ] الحال، فوقع في قلبي محبته، وكان قد جعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، فأتيت معمله فوصيته به، وقلت له: إنه يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم وينتفع به الناس فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحلم .

        وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته على تعلم الأبناء القرآن الكريم كذلك حرصوا حرصا شديدا على تعليم السنة النبوية، فقد قال زين العابدين بن الحسين بن علي ، رضي الله عنه: كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السور من القرآن.

        وقد ذكر الخطيب البغدادي عن طلب والد علي بن عاصم قال: دفع إلي أبي مائة ألف وقال: اذهب فلا أرى لك وجها إلا بمائة ألف حديث .

        وكما حرص الإسلام على تربية الأبناء على حفظ القرآن والسنة وتعليمهم سائر العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج حرص كذلك على تعويدهم وتدريبهم وتعليمهم العادات الإسلامية والأخلاق النبيلة وأن يتمثلوها في حياتهم، وكل ذلك واضح وجلي في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة تربيته للأطفال التربية الإسلامية، التي تقوم على التمسك بهذه العادات والآداب الإسلامية وكيفية ومدى تأثيرها على حياتهم وسلوكهم؛ لأن تكوين العادة في الصغر أيسر بكثير من تكوينها في الكبر، وذلك أن الجهاز العصبي الغض للطفل أكثر قابلية للاستقبال، وبعد سن التمييز يبدأ التعويد الفعلي المقصود، ونستفيد من خصائص الطفولة هذه في غرس هذه العادات التي سينشأ الطفل عليها، وينبغي [ ص: 132 ] أن يتضاعف جهد المربي على تنشئة الأبناء على حسن الخلق والبناء الأخلاقي السليم؛ وقد حرص العلماء على غرس المبادئ الخلقية في نفوس الأطفال، فقد قال ابن القيم في كتابه «أحكام المولود»: «وما يحتاج إليه الطفل أشد الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره من حرد وغضب ولجاج وعجلة وخفة مع هواه وطيش وحدة وجشع فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك وتصير هذه الأخلاق صفات راسخة له» .

        وقد حض بعض أهل العلم على أهمية استغلال فترة الطفولة في غرس الأدب والخلق الحسن، فقال: «إن الصبي يولد على الفطرة الخالصة والطبع البسيط، فإذا قوبلت نفسه الساذجة بخلق من الأخلاق نقشت صورته في لوحة ثم لم تزل تلك الصورة تمتد شيئا إلى أن تأخذ بجميع أطراف النفس وتصير كيفية راسخة فيها، حائلة لها عن الانفعال بضدها، يؤيد هذا أنا إذا رأينا في الغرباء من هو لطيف الخطاب جميل اللقاء مهذب الألمعية لا نرتاب في دعوى أنه ممن أنبته الله في البيوت الفاضلة نباتا حسنا».

        وتتجلى أهمية الأدب وغرسه للطفل أكثر فأكثر عندما نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه أهمية عظمى في البناء الأخلاقي، حتى جعل غرسه في الطفل وتعويده عليه ليصبح طبيعة من طبائعه الخلقية وسجية من سجاياه الطبيعية أفضل من عملية الصدقة التي تطفئ الخطيئة، مع ما في الصدقة من أهمية في الإسلام، فقد روى الترمذي عن جابر بن سمرة ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع ) [22] . [ ص: 133 ]

        والرسول صلى الله عليه وسلم يبين للوالدين أن أعظم هدية للطفل هي الأدب، وأفضل توريث له هو الأدب الحسن.

        ولعل هناك من يغفل عن أهمية الأدب ويعده من الأمور البسيطة، التي يمكن التساهل فيها، وما يدري أنه يهيء ولده للعقوق، وما علم أن غرس الأدب حق الولد على أبيه كواجب حق الطعام والشراب، وقد وعى السلف الصالح أهمية الأدب ومقداره وسمو رفعته فأيقظوا أطفالهم عليه، وشبوا على ذلك، ونصحوا الأمة به، فهذا الصحابي عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما، يوجه نداء للوالدين بخطاب رقيق يضع لهم معادلة رياضية ومسألة حسابية فيقول: "أدب ابنك فإنك مسئول عنه ماذا أدبته؟ وماذا علمته؟ وهو مسؤول عن برك وطواعيته لك " .

        وهكذا سار السلف الصالح يوجهون أطفالهم إلى أهمية الأدب ويورثونه لهم، والأمثلة والنماذج على ذلك كثيرة ومتعددة. فقد قال بعض السلف لابنه: «يا بني لأن تعـلم بابا من الأدب أحب إلي من أن تتعلم سبعين بابا من أبواب العلم»، وقال أحدهم: «علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسم».

        وهناك صفات أدبية كثيرة خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيه الأطفال وبنائهم أخلاقيا واجتماعيا من خلالها، ويجب على المربين أن يجعلوا أطفالهم يتمثلون خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان خير مثال يحتذى، وكان تعامله مع الأطفال تعاملا تربويا رائعا حري بنا أن نحتذي حذوه، فقد أخرج الإمام البخاري [ ص: 134 ] عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه، قال: ( خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنيـن، فما قال لي أف ولا لم صنعت ولا ألا صنعت ) .

        وفي رواية مسلم : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحـاجة فقلـت: والله لا أذهـب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسـول الله، قال: أنس والله لقد خدمته تسع سنيـن ما علمته قـال لشيء صنعته: لم فعلت كـذا وكذا، أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا! ) .

        هذا هو خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أطفال المسلمين، فما أحرانا أن نتخلق بأخلاقه مع أطفالنا لنريهم الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم فسنته مليئة بالمواقف التربوية الرائعة، التي خص بها تربية الأطفال على الآداب والأخلاق النبيلة، ومن ذلك:

        أ- تعويدهم على سنة السلام:

        كان صلى الله عليه وسلم يتمثل الخلق قبل تعليمه، فنجده يمر على الصبيان ويسلم عليهم، أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. [ ص: 135 ]

        فهو عليه الصلاة والسلام يحث الصبيان ويعلمهم ويعودهم على تحية الإسلام، فبسلامه، عليه الصلاة والسلام، يغرس هذه السنة في نفوس الأطفال بدون توجيه وأوامر وإنما امتثالا وتأسيا به عندما يرونه إذا مر سلم على من عرف ومن لم يعرف.

        وروى الترمذي عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه، قال: ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك ) .

        وروى مسلم عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على غلمان فسلم عليهم ) ؛ وروى أبو داوود من طريق حميد قال: قال أنس: ( انتهى إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام في الغلمان فسلم علينا، ثم أخذ بيدي فأرسلني برسالة وقعد في ظل جدار -أو قال: إلى جدار- حتى رجعت إليه ) . قال ابن بطال : في السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة، وفي طرح الأكابر رداء الكبر وسلوك التواضع ولين الجانب [23] .

        وقد تحقق ذلك الركن المهم في التربية، وهو ركن الحب والعطف، تحقق عمليا في تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، رضوان الله عليهم، فكان ذلك مثلا حيا وعملا يقتدي به المربون على مر الأزمان، ولنقف على ذلك من خلال حديث نبوي لإمام المربين محمد صلى الله عليه وسلم لنعرف كيف نوجد علاقة الحب هذه، عن ثابت بن أنس ، رضي الله عنه، قال: ( أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا [ ص: 136 ] ألعب مع الغلمان قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسـك، قلت: بعثني رسـول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته، قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت ) [24] .

        فأنس بن مالك ، رضي الله عنه، طفل في العاشرة من عمره مهمته الأساسية خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ملحة ولم يجد خادمه بين يديه، هل بعث وراءه من يجلبه عنوة أم راح هو وراءه يبحث عنه؟

        إذن فلا ريب أن يبحث المربي بنفسه عن ولده إذا كان في حاجة إليه والسؤال عنه، إذا غاب أو افتقده، وزيارته إذا مرض، وهذا يساعد في تقوية أواصر المحبة والصداقة بين المربي والطفل؛ ويستكمل أنس الحديث فيقول: ( فسلم علينا رسول الله رضي الله عنه ) ، فهو يسلم على الأطفال اللاهين، ولم يتفرق أحد عند رؤيته ذعرا أو خوفا منه، فهم يشعرون أنه صديق حبيب لهم أتى المكان لقيهم فسلم عليهم، ولم يشعر الطفل بشخصيته وقيمته إلا يوم يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر وهو يلعب فيلقي عليه التحية، فأي رحمة وأي عظمة في هذا السلوك النبوي الكريم، وكم يشعر الابن والتلميذ بشخصيته واعتزازه بنفسه وثقته بها عندما يمر معلمه ووالده فيلقيان عليه السلام، فما أروع هذه التربية الإيمانية التي تقوم على بناء الطفل اجتماعيا فتجعله يتكيف مع وسطه الاجتماعي وتجعله عنصرا فاعلا في مجتمعه بعيدا عن الخجل والانطواء [ ص: 137 ] المزعج، يخالط يعاشر ويأخذ ويعطي ويتكلم باحترام، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يغفل هذا الجـانب في تكوين الطفل، فضلا عن أنه لم يغفل أمورا اجتماعية خصها صلى الله عليه وسلم في تكوين الطفل اجتماعيا.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية