الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفصل الثاني

        تربية الطفل في الإسلام

        خصائصها.. أهدافها.. وسائلها

        المبحث الأول: خصائص التربية في الإسلام

        تميزت التربية الإسلامية بخصائص الكمال والتوازن والواقعية، مما أضفى على منهجها الشمول في جميع الجوانب، التي يحتاجها الإنسان وبما يتوافق مع الفطرة الإنسانية؛ ومن أبرز تلك الخصائص:

        أولا: الربانية:

        أي أن أحكام الإسلام وتوجيهاته مصدرها من الرب سبحانه وتعالى وليست نابعة من البشر، وهـذا ما يميزها عن النظريات الوضعية التي مصدرها الهوى والإنكار، القابلة للرد والتعديل، فتتغير وتتبدل حسب الأهواء والشهوات.

        وهذه الربانية تجعل الإنسان يتوجه لرب واحد يستمد منه الأوامر والنواهي، من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ والربانية من حيث الهدف تعني أن المسلم في ظل التوجيهات الإسلامية يبتغي بأفعاله وأقواله رضى الله سبحانه؛ فهو يستمدها من منهج الله.. والتوجيه الإسلامي يربط حياة المسلم بربه، فمثلا [ ص: 65 ] يربط ما بين الإيمان والحب في الله، والسبيل إلى ذلك خلق إفشاء السلام؛ سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) [1] .

        كما أن التخلق للوالدين بالأخلاق الفاضلة من جملة طاعة رب العالمين، والإحسان والتخلق بالعدل والأمانة.

        فالتوجيه الرباني يوجه الإنسان لأفضل الأخلاق وأنبلها حتى يبني مجتمعا يسوده العدل والأمانة والإخلاص وسائر مكارم الأخلاق.

        ثانيا: الشمول والتكامل:

        يتصف التوجيه الإسلامي بالشمول والتكامل في كل ما يحتاج إليه الإنسان في حياته ومعاده، وهو في شموله موضوعي، وإنساني، وفطري وزماني، ومكاني؛ فهو موضوعي لأنه لم يفصل بين الدين والدنيا بل شمل شئون الحياة في الدنيا والآخرة، وإنساني لأنه خاطب البشرية جميعا، وفطري لأنه وفق ما بين مطالب الروح والجسـد، وزماني لأنه التشريع الخالد إلى يوم القيامة، ومكاني لأنه صالح لكل زمان ومكان وليس خاصا بفترة زمنية أو مكان محدد.

        كما بين في شموله علاقة الإنسان بربه الذي خلقه وعلاقته بنفسه وبأسرته وبجيرانه وبمجتمعه الذي يعيش فيه، كما شملت التوجيهات الإسلامية [ ص: 66 ] الرجال والنساء والصبيان، وأيضا جوانب الأخلاق، ( فعن سلمان ، رضي الله عنه، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجـي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم ) [2] .

        فما ترك الإسلام جانبا من جوانب الحياة إلا وقد تناولتها الشريعة وأوضحت لنا فيها الخير من الشر والطاهر من الخبيث والصحيح من الفاسد.

        وبهذا الشمول الذي تتسم به الشريعة الإسلامية فإنها في غاية الكمال،

        قال تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة: 3).

        ثالثا: التوازن:

        من خصائص التربية الإسلامية أنها ملائمة للفطرة والجبلة الإنسانية، فهي تهتم بتربية جميع جوانب الإنسان، الخلقية والجسمية والعقلية، وتحقق التوازن بين مطالب الإنسان الجسدية والروحية، فلا يطغى جانب على آخر، فعندما أمر الله تعالى بالأخلاق الفاضلة حذر الإنسان من الرذائل، وشرع له الطرق والسبل لإقامة ذلك التوازن.

        ولحاجة الإنسان للمال أحل له التجارة وحثه على العمل والكسب الحلال وحرم عليه الربا، ولحاجته إلى الطعام أحل له الطيبات من الرزق وحرم عليه الخبائث من الأطعمة والأشربة. [ ص: 67 ]

        وبهذا يتضح أن التـوازن سمة من سمات التوجيه الإسلامي، الأمر الذي لا يدع مجالا للفرد أن يحيد عن الفضيلة الخلقية ليقترف رذيلة أو يسلك طريقا معوجا ليشبع حاجة من حاجاته، فلا إفراط ولا تفريط، فعن عبد الله ابن عمرو ، رضي الله عنهما، قال: ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: بلى، قال: فلا تفعل، قم ونم، وصم وأفطر، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإنك عسى أن يطول بك عمر، وإن من حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن بكل حسنة عشر أمثالها فذلك الدهر كله، قال: فشددت فشدد علي، فقلت: فإني أطيق غير ذلك، قال: فصم من كل جمعة ثلاثة أيام، قال: فشددت فشدد علي، قلت: أطيق غير ذلك، قال: فصـم صـوم نبي الله داود، قلت: وما صوم نبي الله داود ، قال: نصف الدهر ) [3] .

        فنلاحظ في التوجيه النبوي التوازن بين مطالب الجسد والروح، والتوازن الخلقي بين حق الله وحق الأهل وحق الضعيف وهو النفس.

        رابعا: الثبات والمرونة:

        في التوجيه الإسلامي ثوابت لا يمكن تغييرها أو تبديلها أو حذفها، وهي القواعد الكلية والمبادئ العامة والأحكام الجزئية التي ورد فيها نص، [ ص: 68 ] فإنها لا تتبدل ولا تتغير كوجوب أداء الأمانات إلى أهلها، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب رد المظالم إلى أهلها، وحرمة السرقة والغش والربا، وحرمة بيع المسلم على بيع أخيه فإن هذا كله لا يدخله التغيير ولا التبديل.

        ولكن المرونة تظهر في القدرة على وضع الحلول التي تطرأ في حياة الناس؛ والسر في مرونة الشريعة أن الإسلام جاء بقواعد كلية وقيم ومبادئ ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ثم وجه العلماء للنظر والاجتهاد في المسائل والحوادث الجزئية التي تستجد في إطار هذه القواعد والمبادئ.

        فالإسلام وجه المربي، سواء كان أبا أو أما أو من له حق الولاية في التربية إلى مسئوليته التربوية،

        فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ) (التحريم:6).

        وفي الوقت نفسه لم يحدد الإسلام وسيلة محددة لا يمكن تجاوزها، ولكن للعلماء المسلمين اختيار ما لا يتعارض مع منهج الإسلام مما يستجد من وسائل تربوية مفيدة تبني ولا تهدم.

        والمتعقل البصير يدرك أن الاستقرار والثبات إلى حد معين لا غنى عنه لتربية الأطفال، والتغيير العنيف السريع يسبب القلق وعدم الإحساس بالأمن للأطفال والشباب، ولا يمكن لتربية حقيقية أن تكون ناجحة في مجتمع تتغير فيه القيم والسلوك والمواقف والأهداف بين عشية وضحاها، فيرى المتربي أن الذي يدعوه إلى فضيلة الصدق بالأمس يكذب اليوم، ويعلل بأن الموقف [ ص: 69 ] يتطلب ذلك، ويرى أن الذي يأمر بإقامة حد من حدود الله يرتكب هو الجرم جهارا وعدوانا، فكيف بمن يعيش في أوساط تربوية لا ثبات فيها على مبادئ معينة؛ فلا شك أنه سيعيش في تناقض داخلي قد يدفعه إلى سلوك ذلك الاتجاه المتناقض، لذلك نجد أن الأمم التي لا تطبق التشريع الإسلامي تتخبط في تحديد أهدافها التربوية ووسائل تحقيقها، بل أنها تنحدر في الرذائل الخلقية بسبب عدم الثبات واتباع الهوى ونتيجة الإفراط في المرونة.

        خامسا: الواقعية:

        الإسلام واقعي في توجيهه للسلوك الأخلاقي؛ لأنه نزل من رب العالمين العالم بما خلق؛ وعندما يستسلم الإنسان لله تعالى يجد أنه في إطار واقعي صحيح، وأن الإسلام يحقق له الحياة الواقعية من خلال التنشئة الصالحة التي تعينه وتجعله يشعر بعزة الحياة الإسلامية وواقعها العملي التطبيقي؛ لأنها تعالج قضاياه التربوية بواقعية؛ فالشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا وجهه، عليه الصلاة والسلام، بما يحاكي واقعه وفطرته السليمة فاقتنع وأقلع عن مراده.

        فعن أبي أمامة ، رضي الله عنه، قال: ( إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه، مه. فقال: ادنه، فدنا منه قريبا. قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك، قال: لا واللـه جعـلني الله فداءك، قال: [ ص: 70 ] ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فـداءك، قـال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ) [4] .

        ففي هذا الحديث دلالة على أن العلاج النبوي التربوي كان واقعيا يغرس في الناس حب الفضيلة والعمل بها وكره الرذيلة واجتنابها، وهذا الأمر لا يستغرب، فالتشريع الإسلامي لا يأمر بفضيلة إلا وواقع الفطرة السليمة يرضاها ويحبها ويحب من يتصف بها، ولا ينهى عن رذيلة إلا وواقع الفطرة السليمة يبغضها ويكرهها، ويأنف المرء أن يتصف بها [5] . [ ص: 71 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية