الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفصل الثالث

        صفات المربي وثمرات التربية

        المبحث الأول: صفات المربي الناجح

        هناك صفات أساس يجب أن تتوفر في المربي ليكون تأثيره في الأبناء أبلغ والاستجابة لمناصحتهم أقوى، من أهمها:

        1- الإخلاص:

        يجب على المربي أن يحرر نيته ويخلص لله في كل عمل تربوي يقوم به، سواء أكان هذا العمل أمرا أو نهيا أو نصحا أو ملاحظة أو عقوبة.

        والثمرة التي يجنيها: تنفيذ منهج التربية على الدوام، وملاحقة الولد تربويا باستمرار، عدا أنه يحظى بثواب الله ورضوانه، ويظفر بدار المقامة في جنات الخلد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

        والإخلاص في القول والعمل هو من أسس الإيمان ومن مقتضيات الإسلام، لا يقبل الله العمل إلا بما جاء الأمر به جزما وتأكيدا في كتاب الله عز وجل وعلى لسان نبينا، عليه الصلاة والسلام،

        قال تعالى: ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) (البينة: 5). [ ص: 181 ]

        وقال، عليه الصلاة والسلام، فيما رواه الشيخان: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) [1] ، وقال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه النسائي : ( إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه ) . فما على المربي بعد الذي علمه إلا أن يحرر النية ويقصد وجه الله في كل عمل يقوم به ليكون عند الله من المقبولين وبين أولاده وتلامذته من المحبوبين والمؤثرين.

        2- التقوى:

        إن من أميز ما يجب أن يتصف به المربي صفة التقوى، وهي كما عرفها العلماء الربانيون: «أن لا يراك الله حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك»، أو هي كما قال بعضهم: «اتقاء عذاب الله بصالح العمل، والخشية منه في السر والعلن»، وكلا التعريفين ينصب حول مفهوم واحد ألا وهو اتقاء عذاب الله بالمراقبة الدائمة لله، والتزام المنهج الرباني في السر والعلن، وبذل الجهد دوما لتحري الحلال واجتناب الحرام، ومما يؤكد هذا تلك المحاورة التي جرت بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب ، رضي الله عنهما، وذلك أن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى . [ ص: 182 ]

        لهذا كان الحض على التقوى والأمر بها في كثير من آيات الله سبحانه وتعالى،

        قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) (آل عمران:102)،

        وقال سبحانه: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) (الأحزاب: 70).

        وهناك أيضا أحاديث كثيرة تحث على التقوى، منها:

        - روى البخاري عن أبي هريرة ، رضي الله عنه، قال: ( قيل: يا رسول الله، من أكرم الناس، قال: أتقاهم ) [2] .

        - وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) [3] . وروى الطبراني عن النعمان بن بشير ، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يبروكم ) .

        والمربي يدخل في مضمون هذه الأوامر والتوجيهات دخولا أوليا لكونه القدوة الذي يؤخذ منه وينظر إليه، ولكونه المسئول الأول عن تربية الولد على أسس الإيمان ومعالم الإسلام.

        ومن المؤكد حقا أن المربي إذا لم يكن متحققا بالتقوى وملتزما في سلوكه ومعاملته منهج الإسلام فإن الولد ينشأ على الانحراف ويتيه في [ ص: 183 ] الضلالة والجهالة، فعلى المربين أن يفهموا هذه الحقيقـة إن أرادوا لأولادهم أو تلامذتهم الخير والهدى والصلاح في عالم من الطهر ودنيا من الصفاء؛ لأنهم قدوة لهم في كل شـيء، وبدون هذه القـدوة لا ينفع مع الأبناء تأديب ولا تؤثر بهم موعظة.. ومما ينبـغي على المربي أن يكون على مستوى المسئولية لنرى أفلاذ الأكباد شموس إصـلاح وأثمار هداية يستضيء أبناء المجتمع بنورهم ويتأسون بمحاسن أخلاقهم ويرتشفون من معين آدابهم، ويصدق عليهم قوله تعالى:

        ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) (الأنعام: 90).

        3- العلم:

        إن من الأمور التي لا يختلف فيها اثنان أن المربي ينبغي أن يكون عالما في أصول التربية التي جاءت بها شريعة الإسلام، وأن يكون محيطا بأمور الحلال والحرام، وأن يكون على دراية تامة بمبادئ الأخلاق، وأن يكون متفهما أنظمة الإسلام وقواعد الشريعة؛ لأن العلم بهذا كله يجعل من المربي عالما حكيما يضع الأشياء في موضعها، ويربي الولد على أصولها ومقتضاها، ويسير في طريق الإصلاح والتربية على أسس متينة من تعاليم القرآن وهدي محمد صلى الله عليه وسلم وأسوة كريمة من سير الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان. [ ص: 184 ]

        وأما إذا كان المربي جاهلا، ولا سيما في القواعد الأساسية في تربية الولد، فإن الولد قد يتعقد نفسيا وينحرف خلقيا ويضعف اجتماعيا ويكون إنسانا لا وزن له ولا اعتبار في أي مجال من مجالات الحياة؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والحوض الفارغ من الماء لا يمكن أن يفيض على غيره، والمصباح الخالي من الوقود لا يمكن أن ينير على من حوله، وكم يجني الأب على ولده إذا كان جاهلا؛ ولا شك أن المسئولية أمام الله خطيرة، والوقفـة يـوم العرض الأكبر جسيمة:

        ( وقفوهم إنهم مسئولون ) (الصافات: 24)،

        وذلك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. ومن أجل هذا كان الاهتمام بالحث على العلم عظيما، وكانت العناية بالتكوين العلمي فائقة كبيرة.

        والآيات والأحاديث التي تأمر المسلمين بالعلم وتحضهم عليه وتسوقهم إليه أعظم من أن تحصى،

        منها قوله تعالى: ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ) (الزمر: 9)،

        وقوله سبحانه: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (المجادلة: 11)،

        وقوله تعالى: ( وقل رب زدني علما ) (طه: 114).

        ومن الأحاديث النبوية الشريفة: ما أخرجه مسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ) [4] ؛ وأخـرج الترمـذي ( وقال: هذا حديث حسن غريب ) أن [ ص: 185 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا إن الدنيـا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم ) ، كما أخرج قوله صلى الله عليه وسلم: ( من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع ) [5] .

        فما على المربين بعـد هذه التوجيهـات القرآنية والتوصيات النبوية إلا أن يتميزوا بالعـلوم النافعة والمناهج التربوية الصالحة، من أجل تربية جيـل إسـلامي بجهوده وعزائمه يتحقق عز الإسلام وتقوم في العالمين دولته القوية.

        4- الحلـم:

        إن من الصفات الأسـاسية التي تسـاعد على إنجـاح المربي في مهمته التربوية ومسئوليته الإصلاحية صفة الحلم، وبالاتزان فيها ينجذب الولد نحو معـلمه، وبسببـها يستجـيب لأقـوال مربيه، وبواسطتها يتحلى بالآداب المحمـودة ويتخلى عن الأخلاق المرذولة ويكون كالبدر حين يظهر للناس.

        من أجل هذا حث الإسلام على الحلم ورغب فيه في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ليعلم الناس وبالأخص المربون والدعاة أن الحلم هو من أعظم الفضائل النفسية والخلقية، التي تجعل الإنسان في قمة الأدب وفي ذروة الكمال وفي أعلى مراتب الأخلاق. [ ص: 186 ]

        فمن الآيات الكريمة:

        قال تعالى: ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) (آل عمران: 134).

        وقال سبحانه: ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) (الشورى: 43).

        وقال تعالـى: ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (فصلت: 34).

        ومن الأحاديث النبوية الشريفة:

        - قال، عليه الصلاة والسلام، لأشج عبد القيس : ( إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة ) [6] . وروى أبو هريرة ، رضي الله عنه، ( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال: "لا تغضب" فردد مرارا قال: "لا تغضب" ) [7] .

        - وقال صلى الله عليه وسلم: ( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) [8] .

        فما على المربين إلا أن يتحلوا بالحلم والرفق والأناة إن أرادوا للأمة إصلاحها وللجيل هدايته وللأولاد تربيتهم وتقويم اعوجاجهم.

        وليس معنى هذا أن يسلك المربي دائما طريق اللين والرفق في تربية الولد وإعداده للحياة، وإنما المراد أن يضبط المربي نفسه دونما غضب ولا تساهل [ ص: 187 ] في تقويم الاعوجاج وإصلاح الأخلاق.. وإذا رأى من المصلحة معاقبته بعقوبة التوبيخ أو الضرب بضوابطه الشرعية مثلا فعليه ألا يتأخر عن معاقبته حتى ينصلح أمره وتستقيم أخلاقه، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.

        5- الاستشعار بالمسئولية:

        إن من الأمور التي يجب أن يدركها المربي جيدا وتتأصل في بؤرة شعوره ووجدانه: استشعاره بمسئوليته الكبرى في تربية الولد إيمانيا وسلوكيا، وتكوينه جسميا ونفسيا، وإعداده عقليا واجتماعيا، هذا الاستشعار يدفعه دائما لأن ينطلق بكليته في مراقبة الولد وملاحظته، وفي توجيهه وملاحقته، وفي تعويده وتأديبه، وعليه أن يعتقد أنه إذا غفل عنه فترة وإذا تساهل عن ملاحظته مرة فإن الولد سيتدرج في الفساد خطوة خطوة، فعندئذ يصعب على المربي إصلاحه، وعلى كل مصلح علاجه وتربيته.

        لهذا نجد الإسلام حمل الآباء والأمهات والمربين جميعا مسئولية التربية في أبعد حدودها وفي أوسع مراميها، وحذرهم وأنذرهم أن الله سبحانه سائلهم في يوم العرض عليه عن هذه الأمانة: هل أدوها؟ وعن هذه الرسالة هل بلغوها؟ وعن هذه المسئولية هل تحملوها؟

        قال تعـالى: ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) (طه: 132)،

        وقـال سبحـانه: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) (التحريم: 6)،

        وقال تعالى: ( ولتسألن عما كنتم تعملون ) (النحل: 93).

        وقال سبحانه: ( وقفوهم إنهم مسئولون ) (الصافات: 24). [ ص: 188 ]

        وقال، عليه الصلاة والسلام: ( والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته ) [9] ، وقال، عليه الصلاة والسلام: ( والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ) [10] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ( ما نحل والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن ) [11] .

        وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع، حتى يسأله الرجل عن أهل بيته ) [12] .

        فانطلاقا من هذا الأمر القرآني والتوجيه النبوي وجب على كل مرب مؤمن عاقل بصير وحكيم، أن ينهض بهذه المسئولية على أكمل وجه وأتم استعداد وأقوى عزيمة، واضعا نصب عينيه غضب الله إذا فرط؛ لأن المسئولية يوم العرض الأكبر ثقيلة، والمحاسبة عسيرة؛ فهناك مخططات كبيرة تسعى لإفساد الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، فيجب أن يكون المربي على بصيرة من أمره وليضاعف الجهود لإنقاذ ولده وإصلاح أسرته.

        ونخلص إلى أن الأب مسئول أولا عن تربية الولد الجسمية والخلقية، إذا كان الولـد في المسجـد يتربى روحيا وفي المدرسة يتكون عقديا وعلميا وثقافيا. [ ص: 189 ]

        أما إن شعر أن الولد في المدرسة لا يتربى على مبادئ العقيدة الإسلامية ولا يأخذ حظه من تعاليم الشريعة فعليه أن ينهض بمسئوليته الشاملة في تربية الولد على كل ما يتصل بالإسلام، عقيدة وعبادة وأخلاقا وتشريعا، بل عليه أن يضاعف جهده ويكرس وقته في كل ما يعود على الولد بالنفع الكبير والخير العميم، وعليه أن يربطه بالرفقة الصالحة والدعوة الواعية، وبهذا يكون الأب أو المربي قد أحاط ابنه بسياج من العقيدة الإسلامية الراسخة وبمناعة من الأخلاق الإسلامية القويمة، فعندئذ لا يتأثر بزيغ أو إلحاد [13] .

        وكان يشترط في من يقوم بتعليم الصبيان شروطا خلقية كثيرة؛ وذلك لأنه كلما زادت الخصال المحمودة فيه زاد الصبي به تحملا ورفعة، وأهم هذه الشروط: الرفق بالأطفال في تعليمهم، ومعاملة الطفل كما يعامله أبواه، وعلى المعلم أن يؤدبه كما يؤدبه أبواه، وهما يرحمانه ويشفقان عليه ويذبان عنه في كل الأحـوال، والعدل بينهم في المعاملة، ومساواتهم في التعليم، فيكون الصبيان عنـده بمنـزلة واحدة لا يشرف بعضـهم على بعض، فابن الفقير وابن صاحب الدنيا على حد واحد في التربية والتعليم، هذا إلى جانب كونه من أهل التقوى والورع والعفة [14] . [ ص: 190 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية