: قليل الألايا حافظ ليمينه وإن بدرت منه الألية برت
; ولأن قوله خالف فعله في يمين بالله تعالى مقصود فيلزمه الكفارة كما في المعقودة على أمر في المستقبل ، وأقرب ما يقيسون عليه إذا ; وهذا لأن وجوب الكفارة في المعقودة على أمر في المستقبل لمعنى الحظر ، ولهذا سميت كفارة أي ساترة ، وهذا الحظر من حيث الاستشهاد بالله تعالى كاذبا ، وذلك بعينه موجود في الغموس ; ولأن الغموس إنما يخالف المعقودة على أمر في المستقبل في توهم البر ، والبر مانع من الكفارة ، وانعدام ما يمنع الكفارة يحقق معنى الكفارة فيها ، ولأن في أحد نوعي اليمين وهو الشرط والجزاء يسوى بين الماضي والمستقبل في موجبه ، فكذلك في النوع الآخر . حلف ليمسن السماء ، أو ليحولن هذا الحجر ذهبا( وحجتنا ) في ذلك قوله تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الآية ، فقد بين جزاء اليمين الغموس بالوعيد في الآخرة ، فلو كانت الكفارة فيها واجبة لكان الأولى بيانها ; ولأن الكفارة لو وجبت إنما تجب لرفع هذا الوعيد المنصوص ، وذلك لا يقول به أحد . قال : عليه الصلاة والسلام { خمس من الكبائر لا كفارة فيهن ، وذكر منها اليمين الفاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم ، وقال : اليمين الغموس تدع الديار بلاقع } أي خالية من أهلها ، وقال رضي الله تعالى عنه : كنا نعد اليمين الغموس من الأيمان التي لا كفارة فيها ، والمعنى فيه أنها غير معقودة ; لأن عقد اليمين للحظر أو الإيجاب ، وذلك يتحقق في الماضي ، والخبر الذي ليس فيه توهم الصدق والعقد لا ينعقد بدون محله كالبيع لا ينعقد على ما ليس بمال ; لخلوه عن موجب البيع ، وهو تمليك المال ; ولأنه قارنها ما يحلها ولو طرأ عليها يرفعها فإذا قارنها منع انعقادها كالردة والرضاع في النكاح بخلاف مس السماء ونحوه ، فإنه لم يقارنها ما يحلها ; لأنها عقدت على فعل في المستقبل فما يحلها انعدام الفعل في المستقبل ، ولهذا تتوقت تلك اليمين بالتوقيت ; ولأن الغموس محظور محض فلا يصلح سببا لوجوب الكفارة كالزنا والردة ; وهذا لأن المشروعات تنقسم ثلاثة أقسام : عبادة محضة وسببها مباح محض ، وعقوبة محضة كالمحدود وسببها محظور محض ، وكفارات وهي تتردد بين العبادة والعقوبة فمن حيث إنها لا تجب الأجزاء تشبه العقوبة ، ومن حيث إنه يفتى بها فلا تتأدى إلا بنية العبادة ، وتتأدى بما هو محض العبادة كالصوم تشبه العبادات فينبغي أن يكون سببها مترددا بين الحظر والإباحة ، وذلك المعقودة على أمر في المستقبل ; لأنه باعتبار تعظيم حرمة اسم الله تعالى باليمين مباح وباعتبار هتك هذه الحرمة [ ص: 129 ] بالحنث محظور فيصلح سببا للكفارة فأما الغموس محظور محض ; لأن الكذب بدون الاستشهاد بالله تعالى محظور محض فمع الاستشهاد بالله تعالى أولى فلا يصلح سببا للكفارة ، ثم الكفارة تجب خلفا عن البر الواجب باليمين ، ولهذا يجب في المعقودة على أمر في المستقبل بعد الحنث ; لأن قبل الحنث ما هو الأصل قائم فإذا حنث فقد فات الأصل ، فتجب الكفارة ليكون خلفا ، ويصير باعتبارها كأنه على برة . ابن مسعود
وهذا إنما يتصور في خبر فيه توهم الصدق أنه ينعقد موجبا للأصل ، ثم الكفارة خلف عنه ، وفي مس السماء هكذا ; لأن السماء عين ممسوسة فلتصور البر انعقدت اليمين ، ثم لفواته بالعجز من حيث العادة تلزمه الكفارة في الحال خلفا عن البر ، فأما فيما نحن فيه لا تصور للبر فلا ينعقد موجبا لما هو الأصل ، فلا يمكن أن يجعل موجبا للخلف ; ولأنه حينئذ لا يكون خلفا بل يكون واجبا ابتداء ، ولا يمكن جعل الكفارة واجبة باليمين ابتداء ; لأنها حينئذ لا تكون كبيرة بل تكون سبب التزام القربة ، ومعنى قوله تعالى { ذلك كفارة أيمانكم } إذا حلفتم وحنثتم ، ومن أسباب الوجوب ما هو مضمر في الكتاب كقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر } فأفطر { فعدة من أيام أخر } ، ثم إن الله تعالى أوجب الكفارة بعد عقد اليمين بقوله { بما عقدتم الأيمان } والقراءة بالتشديد لا تتناول إلا المعقودة ، وكذلك بالتخفيف ; لأنه يقال عقدته فانعقدت ، كما يقال كسرته فانكسر ، وإنما يتصور الانعقاد فيما يتصور فيه الحل ; لأنه ضده قال القائل : ولقلب المحب حل وعقد ، ولا يتصور ذلك في الماضي أو المراد بقوله { : بما كسبت قلوبكم } المؤاخذة بالوعيد في الآخرة ; لأن دار الجزاء في الحقيقة الآخرة ، فأما في الدنيا قد يؤاخذ المطيع ابتداء ، وينعم على العاصي استدراجا ، والمؤاخذة المطلقة محمولة على المؤاخذة في الآخرة ، وبفصل الشرط والجزاء يستدل على ما قلنا ، فإنه إذا أضيف إلى الماضي يكون تحقيقا للكذب ، ولا يكون يمينا ، وإليه يشير في الكتاب ، ويقول : أمر الغموس أمر عظيم والبأس فيه شديد . معناه أن ما يلحقه من المأثم فيه أعظم من أن يرتفع بالكفارة .