واختلف في فعل ، فقال : ( يصلي بتيممه ما شاء من الصلوات ما لم يحدث أو يجد الماء ) وهو مذهب صلاتي فرض بتيمم واحد الثوري والحسن بن صالح ، وهو مذهب والليث بن سعد إبراهيم وحماد . وقال والحسن : ( لا يصلي صلاتي فرض بتيمم واحد ، ولا يصلي الفرض بتيمم النافلة ، ويصلي النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض ) . وقال مالك : ( يتيمم لكل صلاة فرض ويصلي الفرض والنفل وصلاة الجنازة بتيمم واحد ) . شريك بن عبد الله
والدليل على صحة قولنا قوله صلى الله عليه وسلم : وقال : التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك فجعل التراب طهورا ما لم يجد الماء ولم يوقته بفعل الصلاة . وقوله : التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء على وجه التأكيد ، وليس المراد حقيقة الوقت ، وهو كقوله تعالى : ولو إلى عشر حجج إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ليس المراد به توقيت العدد المذكور ، وإنما المراد تأكيد نفي الغفران .
فإن قيل : لم يذكر الحدث وهو ينقض التيمم ، كذلك فعل الصلاة . قيل له : لأن بطلانه بالحدث كان معلوما عند المخاطبين فلم يحتج إلى ذكره ، وإنما ذكر ما لم يكن معلوما عندهم وأكده ببقائه إلى وجود الماء . وأيضا فإن المعنى المبيح للصلاة [ ص: 22 ] بالتيمم بديا كان عدم الماء وهو قائم بعد فعل الصلاة ، فينبغي أن يبقى تيممه ، ولا فرق فيه بين الابتداء والبقاء ، إذا كان المعنى فيهما واحدا وهو عدم الماء . وأيضا لما كان المسح على الخفين بدلا من الغسل كما أن التيمم بدل منه ، ثم جاز عند الجميع فعل صلاتين بمسح واحد ، جاز فعلهما أيضا بتيمم واحد .
وأيضا فلا يخلو المتيمم بعد فعل صلاته من أن تكون طهارته باقية أو زائلة ، فإن كانت زائلة فالواجب أن لا يصلي بها نفلا ؛ لأن النفل والفرض لا يختلفان في باب الطهارة ، وإن كانت باقية فجائز أن يصلي به فرضا آخر .
فإن قيل : قد خفف أمر النفل عن الفرض حتى جاز على الراحلة وإلى غير القبلة من غير ضرورة ، ولا يجوز فعل الفرض على هذا الوجه إلا لضرورة . قيل له : إنهما وإن اختلفا من هذا الوجه فلم يختلفا في أن شرط كل واحد منهما الطهارة ، فمن حيث جاز النفل بالتيمم الذي أدى به الفرض فواجب أن يجوز فعل فرض آخر به ، وإنما خفف أمر النفل في جواز فعله على الراحلة وإلى غير القبلة ؛ لأن فعل الفرض جائز على هذه الصفة في حال الضرورة ، وأما الطهارة فلا يختلف فيها حكم النفل والفرض في الأصول . واستدل من خالف في ذلك بقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله : فلم تجدوا ماء فتيمموا وذلك يقتضي وجوب تجديد الطهارة على كل قائم إليها ، فوجب بحق العموم إيجاب تجديد التيمم لكل صلاة . قيل له : هذا غلط ؛ لأن قوله تعالى : إذا قمتم لا يقتضي التكرار في اللغة ، وقد بيناه فيما سلف ، ألا ترى أنه لم يقتضه في استعمال الماء ؟ فكذلك في التيمم . وعلى أنه أوجب التيمم في الحال التي لو كان الماء موجودا لكان مأمورا باستعماله ، فجعل التيمم بدلا منه ، فإنما يجب التيمم على الوجه الذي يجب فيه الأصل ، فأما حال أخرى غير هذه فليس في الآية ذكر إيجابه فيها ، فإذا كان الماء لو كان موجودا لم يلزمه تجديد الطهارة به للصلاة الثانية بعدما صلى بها الصلاة الأولى كان كذلك حكم التيمم .
فإن قيل : التيمم لا يرفع الحدث ، فليس هو بمنزلة الماء الذي يرفعه ؛ فلما كان الحدث باقيا مع التيمم وجب عليه تجديده . قيل له : ليس بقاء الحدث علة لإيجاب تكرار التيمم ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب عليه تكراره أبدا قبل الدخول في الصلاة لهذه العلة ، فلما جاز أن يفعل الصلاة الأولى بالتيمم مع بقاء الحدث كانت الثانية مثلها إذا كان التيمم مفعولا لأجل ذلك الحدث بعينه الذي يريد إيجاب التيمم من أجله ، وقد وقع له مرة فلا يجب ثانية .
وأيضا فإن هذه العلة منتقضة بالمسح على الخفين لبقاء الحدث في [ ص: 23 ] الرجل مع المسح ويجوز فعل صلوات كثيرة به ، وينتقض أيضا بتجويز مخالفينا صلاة نافلة بعد الفرض لوجود الحدث .
فإن قيل : هلا جعلته كالمستحاضة عند خروج وقتها قيل له : قد ثبت عندنا أن رخصة المستحاضة مقدرة بوقت الصلاة ، ولا نعلم أحدا يجعل رخصة التيمم مقدرة بالوقت ، فهو قياس فاسد منتقض وعلى أن المستحاضة مخالفة للمتيمم من قبل أنه قد وجد منها حدث بعد وضوئها ، والوقت رخصة في فعل الصلاة مع الحدث ، فإذا خرج الوقت توضأت لحدث وجد بعد طهارتها ؛ ولم يوجد في التيمم حدث بعد تيممه ، فطهارته باقية .