[ ص: 64 ] حجة القول الثاني: (أنه ليس له الرجوع):
1- حديث -رضي الله عنهما- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ابن عباس "العائد في هبته كالعائد في قيئه".
ونوقش: بأن هذا عام خص منه الوالد; للأدلة السابقة.
2- عن -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبي هريرة "الرجل أحق بهبته ما لم يثب عليها".
وجه الاستدلال: أن قوله: أي: يعوض، وصلة الرحم عوض معنوي; لأنه سبب التناصر والتعاون في الدنيا، وسبب الثواب في الآخرة، فكان أقوى من المال. "ما لم يثب عليها"
ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أنه ضعيف لا يثبت مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أن هذا التأويل ينتقض بهبة الأجنبي؛ فإن فيها أجرا وثوابا، والرجوع جائز عند الحنفية.
الوجه الثالث: أن هذا النوع من المعاوضة لا نظير له في التبرع حتى تعتبر به، فإن المعروف أن ذوي الأرحام يبيع بعضهم لبعض، ويؤجر بعضهم لبعض، ولم يقل أحد من العلماء: إن لذي الرحم أن يقول لذي رحمه: إن ثمن المبيع الفلاني الذي اشتريت منك عوض عن قرابتك لي، ونحو ذلك، بل لو قال له ذلك لعد شطحا من القول، وبعدا عن جادة الصواب، وعلى قولهم هذا يسلم قول ذلك القائل من الاعتراض. [ ص: 65 ]
الوجه الرابع: أنه لو صح فيحمل على هبة الثواب المادي لا المعنوي كما زعموا.
3- حديث -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ابن عمر "لا يحلبن أحد شاة أحد إلا بإذنه".
ونوقش: بأنه عام خص منه رجوع الوالد.
4- قصة عطية لابنته أبي بكر -رضي الله عنها- حيث قالت: "نحلني عائشة -رضي الله عنه- جاد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضره الموت حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا بنية: إن أحب الناس إلي أنت، وأعزهم علي فقرا أنت، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي بالغابة، وإنك لم تكوني قبضتيه، ولا حزتيه، وإنما هو مال الورثة، وإنما هما أخواك وأختاك، قالت: فقلت: فإنما هي أبو بكر قال: ذو بطن: بنت خارجة، أراها جارية". أم عبد الله، يعني أسماء،
وجه الاستدلال منه: أن -رضي الله عنه- رجع في هبته أبا بكر ; لأنها لم [ ص: 66 ] تحزها وتقبضها، ولو قبضتها لما رجع فيها، بدليل قوله: "وإنك لم تكوني قبضتيه ولا حزتيه" ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة، فكان إجماعا على أن الهبة للوالد يفوت فسخها بقبضه لها. لعائشة
واعترض على وجه الاستدلال بهذه القصة من وجوه:
الوجه الأول: أن كون نحلها جذاذ عشرين وسقا لا يخلو ضرورة من واحد من أمرين: أن يكون أراد نخلا تجذ منها عشرين وسقا، وإما أن يكون أراد بها عشرين وسقا مجذوذة، وأي الأمرين كان فهو عدة، والعدة لا تلزم -على القول بلزومها- إلا إذا كانت في معين، وهي هنا ليست في معين من النخل ولا في معين من التمر. أبي بكر
الوجه الثاني: أن هذه القصة هي من رواية فقد رواها عروة بن الزبير، بخلاف ما رواها القاسم فقد روى عروة، -رضي الله عنه- وهو مساو القاسم بن محمد بن أبي بكر أن لعروة -رضي الله عنه- قال أبا بكر -رضي الله عنها-: "إني أخاف أن أكون آثرتك على ولدي، وإنك لم تكوني احتزتيه، فرديه على ولدي، فقالت: أبتاه لو كان لي خبير بجذاذها لرددتها". لعائشة
وروى وهو أجل من مسروق، ومن أخص الناس بأم المؤمنين عروة، -رضي الله عنها- قالت: "قال لي عائشة حين أحضر: إني قد كنت أبنتك بنحل، فإن شئت أن تأخذي منه قطاعا أو قطاعين، ثم ترديه إلى الميراث، قالت: قد فعلت". [ ص: 67 ] أبو بكر
ففي أثر أنه إنما استرده بإذنها، بل إنه يفهم منه أنها لم ترده كله، وإنما أخذت منه قطاعا أو قطاعين. مسروق:
وفي أثر أنه إنما رده خوف أن يكون آثرها على بقية ولده، لا لكونها لم تقبض. القاسم بن محمد:
وأجيب: بأن ما قاله -رحمه لله تعالى- نظر فيما يبدو لي، والله أعلم; وذلك لأمور: ابن حزم
الأول: أن مقدم في الرواية عن عروة -رضي الله عنها- وذلك لأسباب: عائشة
السبب الأول: أنه مكثر عنها.
السبب الثاني: أنها خالته، والإنسان أعلم بأهل بيته غالبا، وهذه طريقة يسلكها بعض أئمة الحديث وعلله، من ذلك ترجيح -رحمه الله- لوصل حديث: البخاري قال الحافظ (لا نكاح إلا بولي) ابن حجر -رحمه الله-: "وإنما حكم له بالاتصال لمعان أخرى رجحت عنده حكم الموصول".
ومنها: أن يونس بن أبي إسحاق وابنيه إسرائيل وعيسى رووه عن أبي إسحاق موصولا، ولا شك أن آل الرجل أخص به من غيره.
الثاني: أن الأئمة جعلوه أخص الناس -رضي الله عنها- كما قال بعائشة "كان أعلم الناس بحديث سفيان بن عيينة: ثلاثة: عائشة القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن".
قال ابن القيم: "يا لله العجب كيف يكون تغليط أعلم الناس بحديثها؟! وهو [ ص: 68 ] عروة".
وقال الحافظ ابن حجر عنه: هو أعلم الناس بحديثها". "عروة
الثالث: أنه تابعه عليه كما تقدم، ومعلوم أن كثرة العدد من المرجحات، وهذا لا يحتاج إلى تدليل. القاسم بن محمد
الرابع: أن رواية أخرجها الإمام عروة وغيره، بخلاف رواية مالك التي أخرجها مسروق ابن الجهم، ومعلوم ما بينهما من فرق.
الخامس: أن نفى الخلاف في ابن حزم وهذا لا يسلم، وقد تكلم فيه مسروق، ابن عيينة.
قال ابن القيم رحمه لله: "وأما تصحيح له، فما أجدره بظاهريته، وعدم التفاته إلى العلل والقرائن التي تمنع ثبوت الحديث بتصحيح مثل هذا الحديث وما دونه في الشذوذ والنكارة! فتصحيحه للأحاديث المعلولة، وإنكاره لنقلتها نظير إنكاره للمعاني والمناسبات والأقيسة; التي يستوي فيها الأصل والفرع". ابن حزم
الوجه الثالث: أن مقتضى هذا الأثر أن ومفهوم ذلك أنه إذا قبضها لا تكون مال وارث وإنما تكون ملكا له، وليس فيه ما يمنع على الوالد من الرجوع فيما وهبه لولده، ثم إنه لو قيل: بأن مفهومه يمنع ذلك، فإنه لا يعارض صريح قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: الولد إذا نحله أبوه عطية، فلم يقبضها حتى مرض والده مرض الموت أنها تكون من الميراث، "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد لولده".