الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثانية: وقف الحربي، والذمي:

        يصح وقف الكافر في الجملة; للعمومات، ولأنه من أهل التبرع والصدقة.

        (100 ) ولما رواه مسلم من طريق ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن [ ص: 365 ] الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم، أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلمت على ما أسلفت من خير ».

        فسمى النبي صلى الله عليه وسلم صدقته خيرا.

        وفيها أمور:

        الأمر الأول: اشتراط القربة في صحة وقفهما:

        اختلف العلماء في ذلك على قولين:

        القول الأول: أن وقفه لا يصح، إلا إذا كان قربة في الشريعة الإسلامية فقط.

        وبه قال الشافعية، والحنابلة.

        القول الثاني: أنه يشترط أن يكون قربة في الشريعة الإسلامية، وفي دين الواقف.

        وبه قال الحنفية، وكثير من المالكية.

        الأدلة:

        دليل القول الأول:

        1 - ما سيأتي من الأدلة في اشتراط القربة في الموقوف عليه (شروط الموقوف عليه ) . [ ص: 366 ]

        2 - ولأن ما لا يصح من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي، كغير المعين.

        ودليل القول الثاني:

        استدل لهذا القول: أنه يشترط أن يكون قربة في دينه ليوافق ما يعتقده.

        ونوقش: بأن العبرة ما جاء في ديننا كما سبق.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - اشتراط القربة في دين الإسلام; لقوة دليله، فالعبرة كونه قربة، وهذا متحقق في دين الإسلام سواء وافقه غيره من الديانات أم لا، لأنه هو الدين الحق عند الله عز وجل - .

        الأمر الثاني: وقف الكافر على المساجد، والمصاحف:

        اختلف العلماء - رحمهم الله - في صحة وقف الكافر على المساجد والمصاحف على قولين:

        القول الأول: صحة وقف الكافر على المساجد والمصاحف.

        وبه قال بعض المالكية، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة.

        القول الثاني: عدم صحة وقف الكافر على المساجد، والمصاحف.

        وبه قال الحنفية، والمالكية، وقول عند الشافعية، واختاره شيخ الإسلام. [ ص: 367 ] الأدلة:

        دليل القول الأول:

        1 - ما تقدم قريبا من حديث حكيم بن حزام، وفيه صدقته، وصلته للرحم، وعتقه حال كفره، وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك خيرا.

        (101 ) 2 - ما رواه البخاري، ومسلم من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: « فأوف بنذرك ».

        3 - أن الوقف ليس قربة محضة، فيصح ممن يصح تبرعه، والكافر يصح تبرعه فيصح وقفه.

        أدلة القول الثاني:

        1 - أن الوقف على المساجد قربة، والقرب تصح من المسلم دون غيره.

        ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم; إذ دل الدليل على صحة صدقة الكافر مع أن الصدقة قربة كما تقدم في أدلة القول الأول، والوقف صدقة من الصدقات.

        2 - أنه لا يصرف على المساجد والمصاحف إلا أطهر الأموال وأطيبها. [ ص: 368 ]

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن المال المحرم لكسبه يصح وقفه كما حرر في شرط كون الموقوف مالا شرعيا.

        الترجيح:

        يترجح - والله أعلم - القول الأول; لقوة دليله، ومناقشة دليل القول الآخر.

        الأمر الثالث: وقف الذمي على الكنائس، ونحوها:

        اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على أقوال:

        القول الأول: أنه لا يصح وقف الذمي على دور عبادته مطلقا.

        وهو قول جمهور أهل العلم: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

        القول الثاني: صحة وقف الذمي إذا كان على ترميمها، ونحوه، وعدم صحته إذا كان على عبادتها.

        وبه قال ابن رشد من المالكية.

        القول الثالث: صحته مطلقا.

        وبه قال القاضي عياض من المالكية، وقول في مذهب الحنابلة.

        لكن عند القاضي عياض له أن يرجع متى شاء.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1 - قوله سبحانه وتعالى: [ ص: 369 ] يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد 2 - وقوله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .

        ووقف المال المحرم الذي يستعان به على المحرم من التعاون على الإثم والعدوان.

        3 - قوله تعالى: لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين فقد نهى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يقيم في مكان يحارب الله ورسوله فيه، بل وحرقه النبي صلى الله عليه وسلم.

        (102 ) 3 - ولما روى مسلم من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ».

        (103) 4 - وما رواه البخاري من طريق أبي صالح، ومسلم من طريق سعيد بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل ». [ ص: 370 ]

        (104 ) 5 - وما رواه مسلم من طريق مصعب بن سعد، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول ».

        وفي الشرح الكبير مع الإنصاف: «ولا يصح على الكنائس، وبيوت النار، والبيع، وكتب التوراة والإنجيل; لأن ذلك معصية، فإن هذه المواضع بنيت للكفر، وكتبهم مبدلة منسوخة...وحكم الوقف على قناديل البيعة وفرشها، ومن يخدمها ومن يعمرها كالوقف عليها; لأنه يراد لتعظيمها...قال شيخنا - ابن قدامة - : ولا نعلم فيه مخالفا ».

        6 - أن الوقف على معابد الكفار لا يصح من المسلم، فكذا الذمي، كالوقف على غير معين.

        أدلة القول الثاني: أن ترميم معابد الكفار جائز للحاجة; إذ إنهم يقرون عليها، ومن لازم الإقرار الترميم.

        ونوقش هذا الاستدلال: أنه لا تلازم بين الإقرار والترميم، فلا يلزم من الإقرار جواز الترميم; لأنه محرم كشرب الخمر يقرون عليه، ولا يقال بأنه جائز ولا يجوز لهم إظهاره.

        ولعل دليل القول الثالث: هو ما تقدم من دليل القول الثاني، وتقدمت مناقشته.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من عدم جواز الوقف عليها; إذ إنها بيوت الكفر والإشراك بالله عز وجل. [ ص: 371 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية