الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأمر الثاني: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علم أن سعدا سيبرأ، وتكون له آثار في الإسلام، يدل لذلك قوله: "ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون" فالمرض ليس بمخوف، ومع هذا منعه الرسول من التصرف فيما زاد عن الثلث، فدل على أن المراد الوصية.

        وأجيب عن هذا من وجوه:

        الأول: أن الحديث بلفظ "أتصدق" وهي أصح من رواية "أوصي" لاتفاق الشيخين على لفظ الصدقة.

        الثاني: أنه لا تنافي بين لفظ الصدقة والوصية، فسمى الصدقة في مرض الموت وصية; لأنها في حكم الوصية في الثلث لغير وارث، فيكون لفظ الوصية دليلا على أن هبة المريض مرض الموت في حكم الوصية.

        الثالث: أن أثر المنع لا يظهر إلا إذا كان في الصدقة; لأنها هي التي تكون لازمة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- رجا أن يبقى، وأما الوصية فيمكن إبطالها; لأنها تبرع بعد الموت.

        الرابع: أن قولهم: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علم أن سعدا سيبرأ ... فالمرض ليس بمخوف" غير مسلم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- رجا أن يبقى، ولم يجزم بذلك، هذا ما دل له ظاهر النص، فلا يترتب على ذلك أن الموت غير مخوف، وأن الأمر بالوصية.

        (269) 3- ما رواه مسلم من طريق أبي المهلب، عن عمران بن [ ص: 259 ] الحصين -رضي الله عنه-: "أن رجلا أعتق ستة مملوكين، ولم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجزأهم أثلاثا بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة".

        وجه الاستشهاد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل العتاق في المرض من الثلث، فكذلك الهبات والصدقات، وإذا لم ينفذ العتق مع سرايته فغيره أولى.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الوجه الأول: هذا الحديث مما اعترض فيه على مسلم; ذلك أن محمد بن سيرين لم يسمعه من عمران بن الحصين مباشرة، وإنما سمعه من خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران، وقد اتفق العلماء على قبول صحيح مسلم إلا ما علل، وهذا منها، حيث إن الحديث من الطبقة الثانية من صحيح مسلم التي يأتي بها على سبيل المتابعة والاستشهاد.

        أجيب عليه: بأن ذلك لا يقدح في صحة الحديث، وإنما ذكره مسلم في المتابعات بعد ذكر الطرق الصحيحة الواضحة.

        الوجه الثاني: أن الحديث فيمن لم يبق للورثة مالا بدليل قوله: "لا مال له غيرهم" وهذا خارج عن محل النزاع، فنحن وإياكم متفقون أنه ليس له أن يتصدق بجميع ماله عند موته للإجماع على ذلك، ويدل على ذلك ما رواه جابر: أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر لم يكن مال غيره، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من يشتريه مني" فلما رده كاملا دل على أنه فيمن لم يبق شيئا لوارثه. [ ص: 260 ]

        الوجه الثالث: أن الحديث يحمل على الوصية لا على التبرعات، بدليل ما ورد في بعض طرقه أنه أوصى، فهو خاص بالوصية.

        الوجه الرابع: أن هذا الحديث جاء فيه عند موته، وليس فيه أنه مريض، فالواجب أن يجعل هذا الحكم في من أعتق عند موته صحيحا أو مريضا فمات إثر ذلك.

        وأجيب: أنه جاء في رواية: "أن رجلا أعتق في مرضه" فتحمل رواية: "عند موته" على رواية: "في مرضه"; إذ المرض المذكور في الحديث هو مرض الموت.

        الوجه الخامس: أن الحديث إنما ورد في العتق خاصة، فلا تلحق سائر التصرفات بالعتق.

        وأجيب: بأن العتق إذا لم ينفذ مع قوة سرايته، فمن باب أولى أن لا تنفذ سائر التصرفات، فهذا قياس أولوي.

        الوجه السادس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جزأهم بحسب العدد لا بحسب القيمة، مما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعتبر الثلث، وإلا لجزأهم بحسب القيمة.

        وأجيب: بأن الاثنين اللذين أعتقهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانا يمثلان ثلث قيمة الستة، يفهم من قوله: فجزأهم ثلاثة أجزاء.

        (270) 4- ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يحدث عن الله تبارك وتعالى: "يا ابن آدم خصلتان أعطيتكهما لم تكن لغيرك واحدة منهما: جعلت لك طائفة من مالك [ ص: 261 ] عند موتك أرحمك به -أو قال: أطهرك به- وصلاة عبادي عليك بعد موتك".

        (مرسل) .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية