الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الشرط الحادي عشر: أن لا يتغير ثمن الهبة.

        صورة ذلك: أن يهب والد لولده شيئا من الأشياء فيزيد سعر ذلك الشيء، أو ينقص عند الولد، أو من يقوم مقامه في القبض، فهل يكون نقص سعره أو زيادته مانعا للفسخ فيه على الوالد أو لا يكون كذلك؟

        اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

        القول الأول: أن تغير السعر لا يمنع الرجوع مطلقا، سواء أكان بزيادة أو نقص.

        وإلى هذا القول ذهب الحنفية، وهو المشهور من مذهب المالكية، بل إن بعضهم جعله القول الوحيد في المذهب، وأن غيره ليس قولا في المذهب، وإنما نسب إلى المذهب خطأ.

        وهو مقتضى مذهب الشافعية كذلك; لأنهم يرون أن نقص الشيء وزيادته [ ص: 145 ] لا تمنع على الوالد الرجوع فيه كما سبق أن عرفنا، فمن باب أولى أن يقولوا بذلك في حوالة الأسواق; لأن من أسبابها نقص الشيء وزيادته.

        وحجته:

        1- حديث ابن عباس، وابن عمر -رضي الله عنهما- وعمومه يشمل الرجوع مع تغير السعر.

        2- أن الشارع جعل للأب الواهب لابنه أن يعود فيما وهبه له، وتغير سعر الموهوب له لا يؤثر في حقيقته; لأنه إنما هو رغبة يحدثها الله في قلوب العباد، فلا تمنع الرجوع على الواهب فيما وهبه لولده.

        القول الثاني: أن تغير السعر يمنع الفسخ مطلقا، سواء أكان التغير بنقص أو بزيادة.

        وهو قول في مذهب المالكية.

        واستدل أصحاب هذا القول له بما يلي:

        1- أن نقص السعر وزيادته بمنزلة نقص الصفة وزيادتها، ونقص الصفة وزيادتها يمنعان الفسخ، فكذلك ينبغي أن يكون الحكم هنا.

        ونوقش: بأن القول بأن تغير الشيء بزيادة أو نقصان يمنع الفسخ ليس على إطلاقه كما سبق، فكذلك يكون الحكم في المقيس عليه.

        2- أن حوالة الأسواق تمنع الفسخ بخيار العيب، فكذلك يجب أن يكون الحكم ها هنا. [ ص: 146 ]

        ونوقش: بأنه لا يسلم فوات فسخ خيار العيب بحوالة الأسواق، بل المنصوص عند المالكية -وهم أشهر من يقول باعتبار حوالة الأسواق- أنها لا تمنع الفسخ بخيار العيب.

        3- أن الاعتصار على خلاف الأصل فيسقط بأدنى شيء; فكان ينبغي أن يسقط بتغير السعر; لأنه مؤثر في رغبة الناس في الأشياء.

        ونوقش: بأن الاعتصار ما دام أن الشارع أباحه صار أصلا وليس خلاف الأصل، وإذا كان أصلا فلا يسقط إلا بما يسقط الأصول.

        القول الثالث: أن التغير إن كان بنقص السعر فإنه لا يمنع الرجوع، وإن كان بزيادته فإنه يمنعه.

        وهذا هو مقتضى مذهب الحنابلة; لأنهم يرون أن نقص الموهوب لا يمنع الرجوع فيه بلا منازع، وكذلك ينبغي أن يقولوا في نقص السعر; لأن نقص قيمة الشيء كنقص ذاته، ويرون أن الزيادة المتصلة تمنع الرجوع كما سبق، وكذلك ينبغي أن يقولوا في زيادة السعر; لأنها متصلة بالموهوب.

        وحجته: القياس على التغير في الموهوب زيادة ونقصا، فكما أن نقص ذات الشيء لا يمنع الرجوع فيه، فكذلك نقص قيمته، وكما أن زيادة الشيء المتصلة فيه تمنع الرجوع، فكذا زيادة الثمن تمنعه بجامع أن كل واحد منهما زيادة متصلة.

        ونوقش: بعدم التسليم، فالزيادة المتصلة لا تمنع الرجوع كما سبق، وأيضا المقيس عليه موضع خلاف بين أهل العلم.

        [ ص: 147 ] الترجيح:

        يظهر -والله أعلم بالصواب- أن الراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور العلماء، وهو أن تغير الأسواق نقصا أو زيادة لا يمنع الرجوع على الوالد فيما وهبه لولده; لأن تغير السعر لا يغير العين من حقيقتها، فيكون الرجوع لبقاء العين على حقيقتها، وللإجابة عما استدل به أصحاب القولين الآخرين.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية