الترجيح:
الذي يظهر لي رجحانه: ما ذهب إليه الجمهور من جواز بل قد يجب عليه إذا تعين طريقا لتلافي ما وقع فيه من جور; وذلك لقوة ما استدلوا به، وتأيده بعظم حق الأب حتى كان له أن يتملك من مال ابنه من غير ما أعطاه، فما كان منه من باب أولى. رجوع الوالد في هبته لولده،
ولأن الولد كما قال ابن القيم جزء من أبيه، وهو مال لأبيه، وبينهما من البعضية ما يوجب شدة الاتصال بخلاف الأجنبي.
فرع:
الحنفية -كما سبق- يمنعون رجوع الأب على الولد في هبته إلا في حالتين:
الأولى: أن يكون الأب محتاجا، فإن كان محتاجا جاز له الرجوع.
ولكنهم يسمون الرجوع هنا رجوعا مجازيا لا حقيقيا، أو ظاهريا; لأن مال الولد لأبيه عند حاجته إليه، فإذا أخذه منه حينئذ كان كمن أخذ ماله، [ ص: 72 ] ومن أخذ ماله لا يعد راجعا، أما إذا لم تكن الحاجة إلى المال قائمة، فلا يكون مالا له، فلا يصح رجوعه فيه بعد قبض الولد له.
وحجتهم:
الأول: حديث -رضي الله عنها- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لرجل: عائشة لما شكا إليه أخذ أبيه لماله. "أنت ومالك لأبيك"
الثاني: حديث -رضي الله عنهما- وفيه قوله: ابن عباس "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهبه لولده".
فإن في أحد تأويلاته: لا يحل لواهب أن يرجع في هبته بغير قضاء ولا رضى الموهوب له إلا الوالد إذا احتاج إلى ذلك.
ونوقش: بأن التقييد بالحاجة ينافي ظاهر الحديثين; فقوله: ظاهره مطلقا، في حال الحاجة وغيرها، وقوله: "أنت ومالك لأبيك" ظاهره كذلك الإطلاق، فتقييده بالحاجة يحتاج إلى دليل، ولا دليل، فيكون تحكما. "إلا الوالد فيما وهبه لولده"
ولعلهم اعتمدوا في التقييد بالحاجة على ما أخرجه بسنده عن أبو داود ترفعه: عائشة، "أموالهم -أي: الأولاد- لكم إذا احتجتم إليها".
لكن قال: إن زيادة (إذا احتجتم إليها) منكرة. أبا داود
الحال الثانية: أن يكون الولد قد قبض الهبة بإذن الوالد، فإن كان لم يقبضها، أو قبضها بغير إذن والده، فللوالد أن يرجع فيها ولو لم يكن محتاجا [ ص: 73 ] إليها; وذلك لأن للأب أن يرجع في هبته قبل قبض الولد عندهم، وليس للولد كذلك أن يقبض الهبة عندهم إلا بإذن والده; لاحتمال أن الوالد رجع فيها قبل الإقباض.
* * *